كنت أشاهد الطلاب المنتسبين للإخوان والمتحالفين معهم وهم يمارسون التدمير العمدى لمنشآت الجامعات وإحراقهم للشجر واقتلاعهم للزرع وتكسيرهم لسيارات المواطنين فى المنطقة المحيطة بجامعة الأزهر، وتابعت عدوانهم على أساتذتهم، ومحاصرة بعضهم لمنزل عميدة إحدى الكليات وكتابة عبارات بذيئة على جدران المنزل ومنازل الجيران، وترديد العبارات نفسها فى هتافات عالية، كما تابعت إصرارهم على تعطيل الدراسة ومنع بقية الطلاب من حضور المحاضرات، ووصل الأمر إلى إشعال الحرائق وقطع الطرق!، وتذكرت ما سبق وكتبت عنه غير مرة ولا بأس عندى من أن أكرره ثانية، لأن المقام يتسع لتأمله ثانية وثالثة وعاشرة!
كان ذلك فى سجن ليمان «أبوزعبل» 1977، ووقعت حادثة اغتيال الشيخ الذهبى العالم الجليل ووزير الأوقاف آنذاك فى السبعينيات، وتم القبض على أعضاء تنظيم التكفير والهجرة، وسيقوا إلى السجن لنفاجأ وكنا محبوسين من شهور سابقة بالأوامر تصدر إلى إدارة الليمان بترك الزنازين والانتقال إلى أخرى، لأنهم كانوا يضغطون الأعداد فى الزنازين لتستوعب القادمين الجدد الخطرين، وكان من حظى ومعى مجموعة من الشباب الناصرى أن ننتقل من زنزانتنا إلى الزنزانة التى كان يقيم فيها المحكومون من تنظيم حزب التحرير الإسلامى المعروفون بمجموعة الفنية العسكرية، وهم الذين كان يقودهم الدكتور صالح سرية الفلسطينى الذى أحيا الحزب وأسس له جناحا فى مصر، وهو حزب أسسه فلسطينى اسمه النبهانى تحت رعاية بريطانية وله قصة طويلة.. والمهم أن صالح سرية نجح فى تجنيد عديد من الشباب ومن ضمنهم بعض طلاب الكلية الفنية العسكرية، وكانت الخطة تقتضى قيام أعضاء التنظيم بالكلية بوضع مادة مخدرة لزملائهم والاستيلاء على «سلاحليك» الكلية والتحرك منها إلى مقر وزارة الحربية القريب، ثم إلى بقية الخطة للاستيلاء على الحكم الذى كان يرأسه الرئيس السادات! وفشلت الخطة بعد أن سقط العديد من القتلى من طلاب الفنية العسكرية والعاملين فيها، وللتذكير فقط فإن طلاب الكلية يعدون من أنبه طلاب مصر، لأنهم من حملة المجاميع العالية فى الثانوية العامة!.. وحوكم التنظيم وصدر الحكم بإعدام صالح سرية وكارم الأناضولى وغيرهما فيما حكم على من رأيتهم فى سجنى الاستئناف وأبو زعبل بالأشغال الشاقة بين مؤبد وبين أقل من مؤبد.
خرجنا من زنزانتنا الساعة الثامنة صباحا، وظللنا ننتظر فراغ أصحابنا من إخلاء زنزانتهم وطال الوقت فيما كان الآخرون قد أدوا المهمة فيما لا يزيد عن نصف ساعة، لأن كل واحد يحمل «البرش» المجدول من الليف وبطانيته وحقيبة هدومه، إذا كان لديه حقيبة وفقط.
بقينا منتظرين إلى أن حلت الساعة الخامسة مساء ونادى شاويش العنبر «التمام يا أفندية»، وأخيرا سمح لنا بتوع الفنية بالدخول لنفاجأ بما يلى:
- أرضية الزنزانة مخلوع منها سطران أو ثلاثة من البلاط ومحفور تحتها.
- المرحاضان «البلدى والأفرنجى» مسدودان بعجينة سميكة من الأسمنت والجبس.
- الحنفيات الست مخلوعة من المواسير ومستبدل بها خوابير خشبية.
- الإطار الخشبى لشباك الطرقة أمام الحمامين مخلوع ومحفور مكانه فى الحائط.
- جدران الزنزانة، وكانوا قد طلوها بالزيت، محروقة وما لم يتم حرقه تم عجن بقايا ورق الجرائد المحروق «الهباب» وتلييط الحوائط بها!
وانتابنى ذهول ومن معى، وكنت قريبا إنسانيا من أحد أعضاء حزب التحرير، وأذكر أن اسمه أحمد ماجد، وكان طويل القامة سمح الوجه له لحية كثيفة بالطبع.. وتوجهت إليه لأسأله: لماذا؟! فأجاب وهو فى غاية الحرج: «لقد تأخرنا فى الإخلاء لأن الجماعة انعقدت فى مجلس طوارئ بقيادة سعيد دربالة، وكان النقاش حول قضية محددة هى: ماذا يفعل المسلم المؤمن إذا ترك دياره لغير المؤمنين؟! واختلفنا ولكن الرأى استقر على «أنه على المسلم إذا ترك دياره لغير المسلم ألا يترك عامرا إلا ويخربه!!» ومن فورى قلت: «يا رجل اتنزعون منا إسلامنا ونحن بل وأنا شخصيا صليت الجماعة معكم ووراء إمام منكم فى زنزانتكم عدة مرات وجلسنا مرات عديدة لنناقش مسائل فى الفقه والتفسير وغيرهما، ثم يا سيدى هب أننا فعلا غير مسلمين وهب أنكم فى حرب حقيقية ألم تتذكروا تعاليم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما أمر جيوش المسلمين ألا تقطع شجرة ولا تردم بئرا ولا تعتدى على بيعة أو صومعة أو كنيسة، ولا على امرأة أو على طفل؟! فما بالك ونحن لسنا فى حرب وأن ما خربتموه هو من قبيل المال العام حتى وإن كان سجنا!!».
ولم يجد الشاب جوابا يرد به سوى أن استأذن لأن «الشاويش» كان على رأسنا يأمرنا بدخول الزنازين ليغلقها علينا! واستغرقنا وقتا غير قصير فى إصلاح ما دمره الذين كانوا يؤخرون تكبيرة الإحرام، حتى يتأكدوا من التحام الواقفين فى الصف: الكتف بالكتف، والساعد بالساعد والخصر بالخصر والساق بالساق حتى لا ينفذ الشيطان من أية ثغرة تفصل الأجساد عن بعضها، ولم يرد فى ذهنهم لحظة واحدة أثناء قتلهم لزملائهم فى الكلية وقتلهم للآخرين من العاملين والأساتذة ثم تدميرهم لكل عامر حتى لا يستفيد منه غيرهم أنهم هم الشيطان بعينه!
هذا هو الأصل فى سلوكيات طلاب الإخوان وطالباتها ورجالها ونسائها، أصل يرى حتمية وجوب تدمير الحياة إذا لم تكن لهم وحدهم السيطرة والتحكم فى البلاد والعباد.
ودعونا نفكر فيما إذا كتب لهؤلاء الطلاب التخرج واتجه كل خريج منهم إلى مجال عمله فماذا هم فاعلون؟!
فى ظنى أن الإجابة ليست احتمالية، لأنها حدثت بالفعل لأننا منذ عدة أسابيع شاهدنا وسمعنا أبا يروى مأساته وزوجته عندما ذهبت الزوجة إلى مستشفى كفر الشيخ العام بطفلها الرضيع الذى لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر لتعالجه من وعكة تهدد حياته، فإذا بالطبيب يقول لها: «خذيه واخرجى من هنا فلن أعالجه!!».. لماذا يا حضرة الدكتور؟! لأن الطفل اسمه السيسى!! وقبلها بفترة تم رفض من اسمه جرجس! هؤلاء الطلاب إذن سيعملون فى حالة تخرجهم على قاعدة الإقصاء والاستبعاد وتمزيق النسيج الاجتماعى، بغير أن يلتفتوا لحظة واحدة إلى أمر اسمه الوطنية أو الإنسانية أو حتى الإسلام، لأنهم نشأوا وتربوا على هذه القناعة ومارسوها بأبشع ما يمكن أثناء وجودهم فى مرحلة الجامعة، وعندئذ قد يتعين أمر من اثنين إما حرمانهم من استكمال تعليمهم ورفضهم ولفظهم حتى لا يبتلى بهم المجتمع وهم منتسبون للجامعة الأزهرية أو غيرها، وإما أن تتم مبادرة وطنية عامة لعلاجهم نفسيا واجتماعيا وإعادة تأهيلهم فى قاعات الدرس وفى المستشفيات وبين عائلاتهم، لأنهم حتى وإن حرموا من التخرج الجامعى فإن المجتمع لن يكون بعيدا عن شرورهم وهم واقفون أمام المساجد يبيعون البخور وأربطة الأحذية أو يبيعون الفلافل والكبدة على النواصى!
لقد كنا طلابا وخضنا غمار الحركة الطلابية ضمن الحركة الوطنية المصرية، وكانت مظاهراتنا فى 1968 ضد الهزيمة وضد الأحكام الهزلية التى طالت بعض المسؤولين العسكريين عما جرى، ثم كان استمرارنا إلى أن توجت الحركة الطلابية بانتفاضتها الكبرى عام 1972، وكتب أمل دنقل قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية»،
واعتصمنا فى الجامعة وفى الميادين ولكن لم تقترب أيدينا أبدا لمدرجاتنا ومعاملنا ومكتباتنا ومبانى جامعاتنا ولم تقترب أيدينا من شجرة أو حتى زرعة وبساط عشب، ولم نلوث جدران عاصمتنا بالسواد والبذاءة ولم نضرب أساتذتنا أو نحاصر منازلهم.
المؤكد أن الطلاب جزء نقى من ضمير الوطن وحركتهم تبقى عظيمة إذا كانت جزءا من الحركة الوطنية تؤمن بثوابت الأمة وتعظم من قدراتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة