الأمية لا تعنى الجهل، وكثير من الأميين كانوا يسيّرون أحوالهم ويديرونها أفضل كثيرًا من متعلمين، ثم إن نقص التعليم لايمثل عائقًا، ونعرف مثلًا أن بيل جيتس، أحد أغنى وأكثر الأشخاص نجاحًا فى العالم، لم يكمل تعليمه، ومع هذا ساهم بأعماله وابتكاراته وشركاته فى ثورة التكنولوجيا، وحقق ثروة، وقدّم منها جزءًا للأعمال الخيرية والفقراء، ثم إن أدوات الثورة التكنولوجية من فضائيات وإنترنت تقلل الفجوة بين المتعلمين والأميين، وهى أوعية يمكن أن تقدم التعصب مثلما تقدم الاعتدال.
ولا نعنى بذلك مدح نقص التعليم، والأمية التى علينا مقاومتها، لكن الوعى لا يرتبط بالأمية الأبجدية، بقدر ما يتعلق بحجم الخبرات التى يحصل الفرد عليها. وفى عالم السياسة يسيطر قادة أقل تعليمًا على الجماهير التى ربما كانت أكثر تعليمًا، لأنهم يستخدمون العواطف، وحتى فى الانتخابات، فقد انتخب الألمان هتلر الذى قادهم لحرب مدمرة عنصرية.
وفى حالة مصر مثلًا، كان أكثر زعماء الإرهاب فى الثمانينيات متعلمين، وأغلبهم كانوا من الأطباء والمهندسين، ومن كليات القمة، وبعضهم كان من حاملى الدكتوراة.. أسامة بن لادن مهندس، وأيمن الظواهرى طبيب، وعاصم عبدالماجد وعصام دربالة وصفوت عبدالغنى كانوا فى كليات القمة، وسوف نجد كبار صناع الفتن الطائفية- مسلمين ومسيحيين- والمذهبية- شيعة وسُنة- من كبار المتعلمين والمتفقهين والحاصلين على أعلى الدرجات العلمية.
والمفارقة فى مصر أن المصريين يحترمون المتعلمين، ويثقون فيهم، ومنذ يناير 2001 رأينا كيف كانت النخب أو بعض المتعلمين يجرون الناس إلى فخاخ.. رأينا النخبة التى سلّم لهم المواطنون قيادة الثورة والائتلافات والاتحادات بعد يناير تركوا الأهداف وتفرغوا لتصفية الحسابات، ومهاجمة وفضح بعضهم على صفحات «فيس بوك» و«تويتر» ثم على «يوتيوب» والفضائيات.
واكتشف المواطنون العاديون أن النخبة والزعماء لا يعرفون أكثر، ولا يملكون طريقًا أو نصائح حقيقية، ولا خططًا، غير المزيد من الحيرة. ولم يعترف الزعماء بأنهم لا يعرفون، ولم يقولوا للناس إنهم لا يمتلكون خبرات تمكنهم من القيادة، كل ما قدموه دعوات لمقاطعة الانتخابات، أو حملات لمهاجمة بعضهم، ومع كل حدث أو صدام كان المواطنون يسألون عن السبب أو الهدف من هذه المظاهرة أو تلك، وكان الرد دائمًا: «أنتم حزب الكنبة لا تعرفون ما يجرى».
كانت الاتهامات توجه للشعب بأنه لا يعرف، ولا يفهم، ولا يدرك، بينما كان محترفو الانتخابات يجيدون السعى لهم، يحدثونهم عن الاستقرار بالحق أو الباطل، يطمئنونهم، يحاورونهم، ويفوزون فى الانتخابات.. من هنا حدثت الفواصل بين النخبة والجمهور.
ونعود لنؤكد أن الأمية ليست أمرًا جيدًا، لكنّ كثيرًا من الانتهازيين والفاسدين يمتلكون وعيًا وقدرة على تفهم قواعد اللعبة السياسية.
الأمية لا تعنى الجهل، والتعليم لا يعنى ارتفاع الوعى، والدليل أننا نرى كثرة من المحللين فى الفضائيات يقودون الناس إلى الحيرة والجهل والتعصب، وبعضهم يروّج للقتل والعنصرية والطائفية، ولا يسعون لفهم أو إفهام الناس ما يجرى، وزعامات تجيد لعب دور رجل فى الثورة، ورجل فى النظام، وتلعب بـ«البيضة والحجر»، بل إن الجماعات الإرهابية كان يشكلها ويقودها متعلمون، يضللون متعلمين مثلهم، ونرى أساتذة على رأس تنظيمات الكراهية والعنف، بما يعنى أن مشكلتنا ليست فى نقص التعليم فقط، إنما فى نقص الوعى، والقدرة على تمييز الطيب من الخبيث.