قابلته بالأمس بعد أن تخطى سنه الأربعين بعامين، كانت آخر مرة رأيته فيها كان سنه 15 سنة، هو "توفيق معين بسيسو" وهو اليوم خبير فى الطباعة التى درسها فى ألمانيا وجاء إلى مصر ليجهز لطباعة ونشر الأعمال الكاملة لأبيه شاعر فلسطين الكبير "معين بسيسو"، عاش "معين بسيسو" فى مصر، وفيها كتب الشعر والمسرح، واعتقل فى سجونها مع رفاقه من الشيوعيين المصريين، رافقته منذ سنة 1976 حتى سنة 1982 لم يمر يوم واحد لم نتقابل فيه، وكانت آخر مرة رأيته فيها فى يوم الخميس الموافق 27 مايو سنة 1982 عندما علم "معين" بوفاة شقيقه الكاتب والإعلامى "عابدين بسيسو" فى الكويت حيث كان يعمل فى الإذاعة الكويتية والتليفزيون الكويتى كمؤلف، ولم يستطع "معين" حجز بطاقة السفر لأن مكتب الطيران كان فى عطلة يوم الجمعة، وبعد بأسبوع تقريبا تمت محاولة اغتيال "شلومو أرجوف"، سفير إسرائيل فى لندن وبدأت إسرائيل فى الحشد الاستعداد لاحتلال لبنان بما عرف كوديا باسم "عملية الصنوبر" أو "السلام للجليل"، وكان الهدف هو إضعاف وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، على الرغم من علم إسرائيل بأن من قام بمحاولة الاغتيال كانت منظمة "أبو نضال"، التى كانت فى حالة حرب مع منظمة التحرير الفلسطينية التى يتزعمها "ياسر عرفات".
لقد قامت إسرائيل بحصار بيروت وبدأ حصار وقصف الميليشيات وإسرائيل لبيروت يوم 13 يونيو 1982 وهو نفس اليوم الذى لعبت به أولى مباراة فى كأس العالم لكرة القدم بين الأرجنتين وبلجيكا، ويعتقد الكثيرون بأن اختيار توقيت الاجتياح بالتزامن مع بداية مباريات كأس العالم لكرة القدم لانشغال العرب فى "البطولة" التى كان اهتمام العرب بها يزيد على اهتمامهم بذبح منظمة التحرير أو حتى ذبح الفلسطينيين أنفسهم، فالجزائر فازت على منتخب ألمانيا لكرة القدم 2-1 فى 16 يونيو، وعلى تشيلى فى 24 يونيو، فى نفس الوقت كان "أبو إياد" و"عاطف بسيسو" منشغلين بالاشتراك فى تشكيل القيادة المشتركة للقوات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية أو "هيئة الإنقاذ الوطنى" فى بيروت بدعوة من الرئيس اللبنانى إلياس سركيس ضمت زعماء الطوائف الرئيسية فى لبنان وكتيبتين سوريتين استمرتا فى القتال، كان هدف "هيئة الإنقاذ" هو منع تفاقم أزمة المواجهة المسلحة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ولكن تدريجيًا أصبحت "هيئة الإنقاذ" هذه عاجزة عن إنقاذ رقبة منظمة التحرير وحلفائها من الشعب اللبنانى فى الحركة الوطنية اللبنانية، وبعد أسبوع من تشكيل "هيئة الإنقاذ" انسحب "وليد جنبلاط" منها واصفًا إياها بـ"هيئة دفن القتلى"، فى هذه الظروف المستحيلة اخترق "معين بسيسو" حصار بيروت ليدخل إليها عائدا من الكويت لا خارجا منها باتجاه المنفى الجديد، وذكرته يومها بقصيدته الأسطورية "رسالة فى زجاجة إلى جمال عبد الناصر" كربان سفينة تغرق ويرسل رسالة استنجاد فى زجاجة (سوف تظل طافية/ يدفعها التيار/ سمك القرش يحوم حولها/ وسوف يأتى فوق لوحه بحار/ ينتشل الزجاجة/ يفض ختمها فى الضفة الأخرى من القناة/ ويقرأ الرسالة) فبدأ يكتب قصيدته الأسطورة: "قصيدة فى زجاجة"، فكتب: (سفر.. سفر/ موج يترجمنى إلى كل اللغات وينكسر/ موجاً على كل اللغات وانكسر/ سطراً.. سطراً/ سفر.. سفر/ سفن كلاب البحر أشرعة السفن/ وطن يفتش عن وطن/ زمن زمن/ الهدهد المخصى كاتبه وحاجبه ذبابة/ زمن تكون به وحيداً كالفراشة فى سحابة)، عاش فى حضرة الشعر والكتابة ومات فى حضرة المجد والخلود ليجىء ابنه بعد ثلاثين سنة من وفاته ليقوم بتجميع كل ما كتبه ويطبعه بنفسه وينشره لتكون "الأعمال الكاملة" لشاعر فلسطين معين بسيسو.