أحمد الجمال

حدوتة «بُرَيدة» التى صارت مصيبة فى مصر

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يتداولون الحكاية فى السعودية، ويتندرون بها على التعصب، ورغم أنها طريفة وتعتمد على قدرة الحاكى فى الحبك والتحكم فى تدفق الكلمات، فإنها تتضمن عمقًا واضحًا يكشف عن خطر الاسترسال فى التوافق على الفرز الدينى والطائفى.. بل داخل الدين الواحد والمذهب الواحد من هذا الدين.
تنسب الحكاية إلى اثنين من قرية اسمها «بُرَيدة» وتنطق باء مضمومة وراء مفتوحة فى منطقة «القصيم»، كانا جالسين جلسة عصارى، بعد أن أديا صلاة العصر، وفيما يتجاذبان أطراف الحديث اتجه الكلام إلى أحوال المسلمين فى العالم، وكيف أن الوضع بشكل عام لا يسر عدوًا ولا حبيبًا، وقال أولهما: «يا أخى إن المسلمين فى الشمال البعيد يعنى فى كندا وأسكندنافيا وروسيا وما تلاها معذورون، لأن الدين الحنيف وصلهم متأخرًا وفى غير صورته الأصلية، ناهيك عن ظروف المناخ المتجمد التى تحد من قدرة الإنسان على التطهر بالماء»!
ورد الثانى: «عندك حق ولكن حتى لو نزلنا إلى أوروبا الغربية والشرقية والولايات المتحدة وغيرها جنوبًا، فإن أوضاع المسلمين لا تسر لتداخل مذاهب وضعية ادعت أنها إسلامية كالأحمدية والقاديانية فى صميم الإسلام الحنيف عدا عن التأثيرات المسيحية والحداثية وما إلى ذلك»!
وأخذ أولهما الخيط وأضاف: «بل حتى إذا نزلنا إلى تركيا واتجهنا شرقًا لإيران والهند وغيرهما، فإن أوضاع المسلمين غير مرضية لانتشار التصوف كجلال الدين الرومى وابن عربى وغيرهما، وللتداخل مع المعتقدات واسعة الانتشار كالهندوكية والبوذية، ولذا فإن مأساة انتشار عقيدة غير سليمة وغير صحيحة موجودة للأسف».
ورد الثانى: «يا أخى حتى لو وصلنا إلى البلاد العربية، فعندك سوريا والعراق إذا دققت النظر، ومعهما مصر وشمال أفريقيا، وجنوبا إلى السودان فستجد انتشار البدع والمستحدثات وطغيان أراء غير متسقة مع الدين الصحيح، ناهيك عن التشيع والأضرحة وتنغيم قراء القرآن الكريم وسفور المرأة وغيره.. ولا حول ولا قوة إلا بالله».
ومصمص الأول شفتيه والتقط الحديث: «والله يا أخى حتى عندنا فى الجزيرة العربية لن تجد إسلامًا صحيحًا إلا فى المملكة، لأن بقية الدول يتداخل فيها غير العرب مع العرب، وستجد تغلغلا للبدعة الشيعية الرافضة، وستجد مذهب الخوارج، وحتى فى اليمن، فإن الزيدية، رغم قربها من أهل السنة، فإنها حافلة أيضًا بالشوائب سلمك الله».
ولم يتحمل الثانى الصمت فانطلق بدوره: «يا أخى خلينا صرحاء لأننا حتى فى المملكة سنجد أن المنطقة الشرقية يغلب عليها المذهب الجعفرى، وأنت تعلم مدى ابتداعهم وابتعادهم عن أهل السنة والجماعة، وستجد الحجاز وفيه بقية من بدع موروثة قبل انتشار مذهب التوحيد الصحيح على يد الإمام محمد بن عبدالوهاب، ولذا فإن نجد وحدها تبقى نقية»!
وعقب الأول: «وحتى فى نجد فإن فيها من استجابوا للدعوة مع الإمام ابن عبدالوهاب، ومنهم من تخاذل فليسوا سواء، ولذا لن تجد إسلامًا صحيحًا إلا عندنا هنا فى بُرَيدة»!
ولم يتحمل الثانى فإذا به ينفجر: «كيف بالله عليك تسوى بين أهل «بُرَيدة» فى الاعتقاد الإسلامى الصحيح؟.. هل نسيت أم تتناسى أن قبيلتكم تعود جذورها إلى من أسلموا بعد الفتح، أما نحن فإننا من أسلموا عند بدء الجهر بالدعوة فى مكة»!
ولم يتحمل الأول هذه المفاضلة وأخذ يعدد مناقب قبيلته فى الغزوات الأولى، رغم أنها دخلت بعد الفتح، فيما قبيلة زميله ليست لها المناقب نفسها، ولم يقف الأمر عند التصايح بل وصل إلى السباب والاشتباك العنيف!
إن قصة «بُرَيدة» تكاد رغم فلكلوريتها تكون نموذجًا لما يحدث الآن بين الإخوان وبين غيرهم من تيار التأسلم السياسى، الذى سبق وأن اخترت له اسما طويلاً إلى حد ما هو «تيار رافعى المصاحف على رماح الصراع السياسى الاقتصادى الاجتماعى الدنيوى»!
لقد أمعن الإخوان فى اتهام السلفيين فى دينهم، فيما كان الأصل هو ادعاء السلفيين أن دينهم هو الأصح على طول الخط، وأن الإخوان منذ حسن البنا، خلطوا بين الدين وبين المصلحة، وعقدوا المصالحة بين التصوف، وهو بدعة، وبين التسلف وهو الصحيح إلى آخره.
إننا بصدد التمزيق الميكروسكوبى داخل الدين الواحد وضمن المذهب الواحد، الذى هو «سنى» لدى الطرفين، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل من المؤكد أنه سيتجاوز إلى درجة أكثر خطورة هى الاقتتال.
وربما يجد البعض فى هذا الكلام افتئاتا على هذا التيار، ولكن الحقيقة المبنية على ما حدث فى سالف الأيام، ومنذ قرون عديدة وعلى ما حدث فى قريب الأيام، أى منذ سنين قليلة، والمبنية أيضا على قراءة ما يستند إليه أولئك الناس تؤكد حتمية الاقتتال بينهم، لأن كلا لديه ما يشرعن له سفك دم الآخر، حتى وإن صاح فى وجهه أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. فعلها من ينتسبون إلى صدر الإسلام بل فعلها بعض كتبة الوحى، وممن صاحبوا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وتسألنى: متى يمكن أن نتوقع هبوط الخط البيانى لهذه الحالة التى تبدو غريبة فعلا على أهل مصر، والتى تبدو أيضا أبعد ما يكون عما تحتاجه بلادنا فى هذه المرحلة، حيث المطلوب هو التعاون والتكامل والسعى المشترك للخروج من المحنة التى تعصف بالجميع؟!
وأقول لك مجتهدا، لا لكى أنال أجرا واحدا إذا أخطأت وأجرين إذا أصبت، ولكنه اجتهاد قد يصيب وقد يخيب لغياب قاعدة معلومات علمية نفسية اجتماعية.. وأيضا اقتصادية سياسية عما نسميه بلغة العلم الاجتماعى «ديناميات الجماعة الدينية»، وما نسميه بلغة العلوم السياسية «جماعات المصالح» أى «اللوبى»، لأن الإخوان فى ترجمة معاصرة أظنها صحيحة مثلوا جماعة ضغط مصلحية لها أهداف اقتصادية وسياسية، واتخذت من الدين سبيلا للوصول إليها.. وهى لا تقل فى ذلك عن الحركات الصهيونية ابتداء من أيام هرتزل وليس انتهاء بجماعة مثل إيباك الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية.
إن لدينا نقصا فادحا يتحمل مسؤوليته أساتذة وخبراء علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى، ويتصل بدراسة تحركات وتفاعلات الجماعات التى تتخذ من الدين مرجعية وحيدة لها وباختلاف درجات انتمائها لهذه المرجعية، بما فى ذلك من يقتصرون على الدعوة السلمية فقط، ومن يتجاوزون إلى ارتكاب أى عنف مطلوب فى مواجهة الآخر الذى لا يعتبرونه منهم أو يصنفونه من أصحاب الدين السليم، كما أن النقص نفسه يحاصرنا فيما يتعلق بحجم دور وثروة هذه الجماعات فى الاقتصاد بأنواعه المتعددة «الإنتاجية والمالية والعقارية والخدمية والاستيرادية وغيرها».. ولا يمكن أن نتوقع نزولا للخط البيانى لعنف الإخوان والجهاديين المنتشر الآن فى سيناء وفى الوادى ما لم يكن لدينا منهج علمى فى التوقع، وهنا أوجه نداء إلى أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى ليبادروا إلى استكمال ما قد يكون لديهم من دراسات فى هذا الاتجاه، وهنا وعلى ما أتذكر، فإن صديق عمرى الأستاذ الدكتور عبدالحميد صفوت إبراهيم، كانت له جهود أكاديمية فى هذا الاتجاه، ولا أدرى هل استكملها أم توقف، وإذا كان قد توقف فأين تلاميذه، بل أين كل الأساتذة فى التخصصين؟ لأن هذا هو وقتهم، تماما مثل حالة الحرب التى تخوضها الأوطان ويتحتم على العلماء فى كل مجال تقديم العون لصاحب القرار ولاستكمال دور الجيوش.. لأنه فى الحرب يلزم دراسة شخصية العدو ودراسة تفاعلات الجماعات المتشددة التى تحفزه للحرب وللانتصار على الخصم.. ويلزم استجواب الأسرى ومعرفة منهج تفكير الشرائح الاجتماعية التى ينتمون إليها وهلم جرا. ولا أتجاوز إذا قلت إننا فى حالة حرب مع الإرهاب المسلح الذى يقتل أبناءنا من الجنود والضباط فى الجيش وفى الشرطة، ويروع المجتمع كله، لدرجة أن القنابل بدأت الآن تزرع بجوار المدارس!
وعلى الصعيد الآخر، فإن الظاهرة لن يكتب لها الانحسار مادامت بقيت تعبيرا عن مصالح اقتصادية كبيرة ومتوسطة.. يعنى مرتبطة بحياة قيادات بعينها ورفاهية أسرهم واستمرار مكاسبهم الخرافية، ولكم أن تتساءلوا كيف يتوقف الشاطر ومالك وغيرهما من أصحاب المليارات أو الملايين عن تأجيج نيران الصراع والانتقام، خاصة بعد أن حدث وتزاوج المال المتأسلم مع الحكم وبدأت مسيرة التمكين؟! ويا له من تزاوج تبذل من أجله الأموال وتزهق للوصول إليه الأرواح، بل وإذا استلزم الأمر تحرق فى سبيله الأوطان!.. وفى هذا المقام أود أن تراجعوا صورة وجه خيرت الشاطر وهو واقف فى القفص ينظر بطرف عينيه، ويكاد وجهه يتفجر غيظا وتكاد الحمم البركانية تنهمر من طرف عينه.. كان وجهه ينطق بالويل والثبور وعظائم الأمور دون أن تنفرج شفتاه.. وكيف لا وقد عاش منذ شهور لحظة دانت له الدنيا فيها.. مالا وجاها وسلطة وتحكما وعزا وعلاقات دولية، ولدرجة وصل فيها لأن يقول لقائد عام الجيش المصرى ووزير الدفاع: إن السلاح جاهز ومنتشر والرصاص سينهمر إذا لم..!!
ما علاقة حكاية «بُرَيدة» ببقية المقال؟.. العلاقة أن الموضوع كله يدور فى دائرة واحدة هى الآليات والضوابط التى تحكم تفاعلات التفكير الإقصائى على قاعدة العقيدة الدينية.. وكذلك كشف ما تحت التستر بتلك العقيدة، وهذا هو بيت القصيد فيما نعيشه هذه الأيام.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة