د. محمد على يوسف

مع آلام الآخرين

الجمعة، 27 ديسمبر 2013 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«إن أكثر أنواع الألم التى يمكن أن يتعايش معها الإنسان هى آلام الآخرين» كانت تلك المقولة من أول ما سمعت أثناء دراستى العملية فى كلية طب الأسنان، كنت أتأملها بنوع من التشكك فى مستهل حياة يفترض أن تمتلئ بالتعامل مع الألم بحكم المهنة التى أنا مقبل على ممارستها، حين سمعتها من أحد أساتذتى فى الكلية كانت فى سياق التهوين من شأن تلك المشاعر المتدفقة بالشفقة والرحمة والتى كانت تبدو على وجوه المستجدين والمستجدات على تلك المهنة الصعبة والتى تعد أنات الألم وتأوهات المرضى المساكين خلفية مستمرة لها كأنها موسيقى تصويرية حزينة، يومها قلت لنفسى: هذه ليست قاعدة دقيقة بلا شك أو هى خاصة بغلاظ القلوب من البشر، واستبعدت تماما أن أكون ممن يألفون آلام الغير ولا يتعاطفون مع أناتهم ولا يرقّون لتأوهاتهم، لكننى كنت واهما.
يبدو أن المقولة الصادمة صادقة إلى حد بعيد، ويبدو أننى بالتدريج ودون أن ألحظ قد تعايشت فعليا مع آلام الآخرين، لم أدرك ذلك تمام الإدراك إلا حينما أصابنى ما أصابهم واضطررت لأن أجلس مجلسهم وأتعرض لما يتعرضون له، طبعا لم تكن المرة الأولى التى يصيبنى فيها ألم فى أسنانى لكنها كانت الأقسى بلا منازع، كانت الأقسى لدرجة لم تفلح فى تخفيفها أعتى المسكنات التى تجرعتها وابتلعتها، بل التى اضطررت لحقن نفسى بها حين لم أجد من يحقننى، فعلا كانت آلاما لا توصف بلغت درجة كدت أسقط مغشيا على فى إحدى هجماتها، كان التوقيت صعبا ولم يكن زميلى الذى يعالج أسنانى متاحا ولا حتى غيره من الزملاء، وكل خبراتى الدوائية كانت قد عجزت أمام هذا الألم الكابوسى، للأسف صدقت فىّ المقولة، وفوجئت أننى لم أكن أتصور لحظة أن مرضاى قد يعانون لهذه الدرجة، لم أكن أنتبه بشكل كاف حين يقولون إن المسكنات لا تفعل شيئا، كنت أحيانا أقول لنفسى لعل احتمالهم ضعيف أو ربما هم يبالغون، للأسف تعايشت مع آلامهم ولم أشعر بها حقا حتى تألمت بنفسى، مهما بلغ وصف الألم فلن يشعر به إلا من تألم، قد يبدى المرء تعاطفا ورحمة لكن الفارق لم يزل كبيرا بين من ذاق وبين من لم يذق وإن الألم البدنى على قسوته قد يكون أحيانا أهون بكثير من آلام النفس، وتلك الأخيرة- للأسف- هى أكثر ما يتعايش معه الناس، آلام على قسوتها وشدة وطأتها غير ملحوظة، ربما لا يصاحبها تأوه أو صراخ لكنها تدمى قلب المتألم وتمزقه من الداخل، ومهما بلغت فصاحة عبارات المواساة وسخونة عبرات التعاطف فإنها لا تكفى لتسكين آلام أم ثكلى، أو قهر مظلوم بُغى عليه وامتهنت إنسانيته واغتصب حقه، أو انكسار يتيم فقد أما طالما آوى إلى كنفها فى ليلة ظلماء ليجد دفئا لن يطويه بعد اليوم، تلك آلام ليس لها من دون الله كاشفة وليس لوجعها من دون تثبيته وتخفيفه مسكنات أو مهدئات، لكنها- بلاشك- تزداد حين لا تجد المواساة والتقدير المفترض، وربما تتضاعف وتتفجر حينما تجد العكس، حينما تجد استهانة وعدم اكتراث، أو تحقيرا وتهوينا من شأنها، لذا قد يرسل الله مذكرا أو منبها لتلتفت ولتتأمل ولتُقَدِّر ولا تنسيك نعمة العافية أن هناك من يتألم لكى لا تغفل وتألف الألم فلا تقدره حق قدره أو يأتى عليك يوم تستخف به وتهون من شأنه ولتعتذر وتتأسف إن كنت قد قسوت يوما ولم ترحم أو استهنت به وقللت من وقعه ولم تعرف ذلك المعنى، معنى آلام الغير، تلك الآلام التى لا يعنى عدم شعورك بها أنها ليست موجودة أو أنها أسهل فقط لأنها آلام الآخرين.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة