لماذا أشعر دائما مع كل تطور للأحداث أن هناك أكثر من حاكم لمصر، وأكثر من جهاز يتحرك ويتصرف دونما تنسيق مع الأجهزة الأخرى، لماذا تتنافى الأفعال وردودها مع كل أدبيات التنسيق وتوزيع الأدوار والترتيب المشترك، هل يتصور بعد مركزيه مصر الشديدة والتى ضربت فى أوصالها السياسية بعد ثورة 52 أن تتحول هذه المركزية إلى تشتت مفرط وجزر منعزلة، هل نتحول الآن من وضع سياسى كانت فيه الدولة هى العنوان الأوحد إلى شكل جديد تتحول فيه الدولة من كيان واحد إلى مجموعة من الأجهزة الرسمية السيادية كل منها يتصور وحده أنه الدولة!! فكل جهاز الآن تقول الشواهد إنه يتعامل بعقل وتصرف وإرادة مختلفة لدولة المفترض أن تكون مركزية الإرادة متعددة الأفكار!!
عن طريق الربط بين مجموعة من الشواهد على الساحة يتبين ملامح فكرة تفرع أجهزة الدولة وعدم عملها برأس واحدة، فمثلا مؤسسة الرئاسة تؤكد مرارا على توحد ثورتى 25 و30، وأنه لولا الأولى ما كانت الثانية، وأن ثورة يناير ليست من صنع الإخوان، وأن الشعب المصرى كاملاً لبى نداء شباب مصر فى 25 يناير، ويجب احترام كل ظواهرها ورموزها وشهدائها، ومن ناحية أخرى تمارس أجهزة سيادية أخرى وعن طريق إله إعلام يحتلها متضررو ثورة يناير أو حتى الحاقدين عليها والحاسدين لرموزها تشويها متعمدا لثورة يناير وكل من مارس فيها فعلا احتجاجيا شريفا، وكأن الملايين الذين أيدوا الثورة ونزلوا لميادينها كانوا فراغا كبيرا إلا بعض الشباب.
فلقد احترم الجيش عن طريق قائده العام الفريق أول السيسى ثورة يناير فى بيان ثورة 30 يونيو، وهنا كان واضحا تفهم الجيش أن جزءا كبيرا جدا من صانعى يناير هم صناع 30 يونيو، ومن ثم كان التوكيد على التوحد والتجرد للثورتين، ورغم ذلك تجد أثناء مشاهداتك اليومية أجهزة أخرى هامة فى الدولة تحقر ثورة يناير وتكيد لها ولمن شاركوا فيها!!
وفى حين يصر الرئيس والحكومة والجيش بالاجتماع والتشاور مع كل القوى السياسية الوطنية فى كل الأمور الجلل، دون التفريق بين قوى يناير أو يونيو، ودعوة الجميع دائما للتوحد تحت راية الوطن فقط، والعمل على تغليب المصلحة الوطنية، تجد قوى ترتبط بالنظام الأسبق «مبارك» تتحلق على نفسها وتشكل مجموعات سياسية تنفرد فقط بأنها لا تعبر عن رؤية مصر الثورة والتغيير والتحرر، تقوم جثث من أحداث الماضى لتتحدث عن صناعة المستقبل!! ويحدث كل هذا فى ظل تشويه وحرب متعمدة على ثورة يناير، يتحدثون عن دستور يصنع المستقبل ويتحلقون على مساندته وهم يعلمون أنهم قوى استدعاء الماضى دون منازع أو منافس، وأن عقيدتهم السياسية بنيت على التوحد والاحتكار والتفرد ورفض كل جديد ومختلف ومبدع ومبتكر. حتى جهاز الداخلية والذى أعادته ثورة يونيو إلى حضن وثقة المواطنين، شرع بعض أعضائه على استرجاع أدبيات الماضى والتعامل مع المعارضين أو قوى التغيير على أنهم أعداء الوطن والاستقرار وهنا يتضح فى الأذهان فورا أن الأجهزة التى كانت طرفا فى المعادلة السياسية فى صبيحة 25 يناير عادت للانتقام من فكرة التغيير فى حد ذاتها، ومحاولة تشويه ثورة يناير حتى يتخلصوا من إحساسهم بالذنب فى حق شعب مسالم تم قمعه وتحقير رغباته فى التحرر إلى أن انفجرت فى 25 يناير، لا أنكر بالقطع الدور الوطنى الشريف والمقاتل وآيات التضحية ومشاهد الفداء الذين يصنعهم أبطال الداخلية فى مواجهة قوى الإرهاب والظلم والعنف، ولكنى أيضا أرى أنه جزء من هذا الدور الشريف بحق السيطرة على قوى الانتقام والتشويه الذى يمارسه بعض رموز العمل الأمنى السرى على قوى التغيير المرتبطة بثورة يناير، وهنا يجدر بى الذكر أننا لسنا أمام أنبياء قاموا بالثورة ودعوا لها، وأنه يجب وقوع الجميع تحت دائرة المحاسبة ولكن دون تشويه متعمد أو تعريض بالسمعة قبل أحكام قضائية نهائية.
واللافت للنظر أيضاً أنه على مستوى صناعة الرأى العام فلقد ارتاحت بعض الأقلام والميكروفونات والكاميرات الإعلامية إلى تصدير ثورة يناير على أنها مؤامرة إخوانية أمريكية، وتفاعلت تلك العقول المتربصة مع بعض المتضررين من ثورة يناير، وانشغلوا ليل نهار بالكيد لتلك الثورة المعجزة ومحاولة وأدها حية وتشويهها، برغم انبهار العالم بها، وتقديره البالغ لإلهامها كما هو تعجبه من عنفوانها وشبابها، وكأن الملايين التى نزلت للشوارع والميادين «فوتوشوب»!! تلك العقلية التى حكمت مصر فى نظام مبارك وفى نظام الإخوان تتجلى بنفس الظواهر والشواهد دائما، وهنا يدور نفس السؤال من يحكم مصر؟ من يصنع الرأى العام؟ من يريد ماذا؟، قد يقول البعض وأين مساحة حرية الرأى إذا!؟ وهنا الرد الواضح والصارم يكون أن الرأى التى يصنع فرقة وتنابذاً ويتآمرا على التاريخ وصياغته لا يكون حرا ولكنه موجها، الرأى الذى يأتى من متضررى الثورات فيها لا يكون حرا منزها، ولكنه يكون زفرات حقد وكراهية ومحاولات لاسترجاع ماضيهم الشخصى ونفوذهم على حساب ثورات التغيير وأرواح الشهداء وجراح المصابين والعيون المفقودة فى الميادين والشوارع!!
ومن زاوية أخرى تجد مؤسسات الدولة الرسمية والأجهزة والوزارات لا تملك أن تزيح الفساد والاحتكار، وتجد أن وجهة نظر أعصاب الدولة المختلفة فى محاربة الفساد متفاوتة القوة والسرعة، وهنا أيضاً تدور جدلية التعريف الوجدانى لثورات الشعوب وهو مقاومة الفساد فى كل صورة، وهنا يدور السؤال هل من يحكم مصر الآن يريد محاربة الفساد وخوض غمار معركة تاريخية قد توفر لمصر المليارات وتنقذها من شبح الإفلاس والتدنى!؟ حتى هذه المسلمات الأخلاقية تجد قوى الدولة تختلف حولها وحول أدوات خوض المعركة ضد الفساد وتوقيته وتتحسب من نتائج هذه الحرب، وهذا أيضا دليل أن سؤالنا من يحكم مصر وماذا يريد سؤال صعب وبلا إجابة حتى الآن!؟ هل مصر يحكمها قادة ومساندون للثورة أم نحن أمام نظام حكم لتسيير الأعمال كما هى حتى وان كانت رديئة ومغرضة!؟
زوايا كثيرة تقودنا لنفس السؤال، من يحكم مصر الآن!؟ وهل تعدد جهات الحكم فى صالح دولتنا العظيمة، هل الرسائل المتضاربة التى تخرج من أجهزة تمثل عصب الدولة المصرية هى دليل صحة وعافية وتوحد ذلك الوطن، هل محاولات الإبعاد بين يناير ويونيو فى مصلحة أجهزة الحكم الآن!؟ هل الارتداد لقوى الماضى الأسبق دليل تفهم وحصافة لبعض أجهزة الحكم الآن!؟ هل تتساند أجهزة دولة واحدة على أصحاب مصالح مختلفين فى كل شىء!؟ هل قرارات الحكم والتى تخرج مختلفة ولا تحترم نفس النوتة الموسيقية هى نذير خروح من أزمتنا الراهنة!؟ هل نحتاج لأكثر من عدو واحد وواضح مثل قوى الإرهاب والتى تتستر بالإسلام لتكن أجهزة الدولة واحدا صحيحا أمام الجماهير!؟ هل قيادة واحدة تؤدى لشعب متفرق تائه كما نراه الآن!؟
من دواعى ذهولى أيضا رصدى لرؤية بعض الأجهزة وقطاعات من الشعب والتى ترى أن العودة لنظام مبارك سيحل المعضلة السياسية!! قد لا أكون مغاليا إذا قلت إن مصر لن تستقر أبدا إذا فكر بعض المغرضين لجرها مرة أخرى لنظام مبارك، مصر لن تستقر طالما رؤيتها أيضاً غير واضحة، مصر لن تستقر طالما يحكمها كل الأجهزة منفردين، مصر لن ترى الغد إلا بتخلصها من الماضى البغيض والوقوف عليه لرؤية شروق جديد.