أحمد الجمال

الخوزقة العثمانية

الثلاثاء، 03 ديسمبر 2013 11:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هناك رواية معروفة- ربما للعواجيز نسبيا- اسمها «جسر على نهر درينا» ألفها روائى صربى أى «يوغوسلافى» سابقا اسمه إيفو أندريتش، وترجمها العبقرى الراحل سامى الدروبى.. وقبل أن أسترسل فى حكاية الرواية وبقية المقال أود أن أذكر أن سامى الدروبى عربى من سوريا ومثقف من طراز رفيع، بل يعد فى نظرى أفضل من ترجموا إلى العربية، وهو أيضا شخصية عامة تولى العديد من المواقع الرسمية الرفيعة وله موقف مشهور بعدما وقع الانفصال 1961 وتفككت الجمهورية العربية المتحدة التى ضمت مصر وسوريا، إذ اختارت إحدى الحكومات السورية عام 1962 تقريبا سامى الدروبى سفيرا لها فى مصر.. وجاء يوم تقديم أوراق اعتماده للرئيس جمال عبد الناصر ووقف الدروبى وألقى كلمة شديدة الاختصار كان مطلعها جملة عميقة المغزى رهيبة التأثير، إذ قال موجها كلامه للرئيس «سيدى الرئيس: يعز علىّ أن أقف هذا الموقف لأقدم أوراق اعتمادى سفيرا لسوريا لدى مصر بعد أن كنت مواطنا فى الجمهورية العربية المتحدة التى كنتم رئيسا لها وكنت ومازلت أعتز بانتمائى إليها».. ثم طفرت دموعه واندفع معانقا عبدالناصر!

تدور أحداث رواية «جسر على نهر درينا» حول الفترة التى احتلت فيها الإمبراطورية العثمانية «تركيا» الأراضى الصربية ضمن اكتساحها لإقليم البلقان، وكيف أن الشعب الصربى قاوم الاحتلال وظل يقاوم حتى كسره العنف التركى بلا رحمة، ثم تحكى عن البطل الصربى الذى قاد شعبه فى هذه المقاومة إلى أن يصف المؤلف مشهدا مازال يهز بدنى، وأظن بدن كل من قرأها، يرتجف من هوله وهو مشهد إعدام بطل المقاومة الصربية بوسيلة الخازوق!
كنت أقرأ الرواية لأول مرة فيما كنت معتقلا ومحبوسا فى سجن الاستئناف بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وعلى أحداث انتفاضة يناير 1977 التى أظنها كانت الخميرة الأولى للتحركات الشعبية المليونية التى غيرت مصر، وعندما قرأت المشهد ارتج كل كيانى، فالمؤلف يصف قائلا على ما أتذكر: «قبض على بطل المقاومة وبعد تعذيبه عذابا لا يتحمله بشر وهو صامد لا يستسلم قرر الأتراك خوزقته وجاء «المخوزقاتى» أى تقنى الخوزقة وأخذ غصنا صلبا من أغصان أشجار البلوط، حيث الغابة الكثيفة وأخذ يهذب الغصن ويبرى طرفه حتى صار مدببا وحادا، وأعد قاعدة خشبية لينصب عليها الخازوق.. وأحضر الرجل ومدده أرضا ثم وجه سن الغصن إلى فتحة مؤخرته وربط فخذيه وساقيه وشدهما إلى الغصن، ثم قام ومعه معاونوه برفع الخازوق وأعلاه الرجل حتى انتصب الخازوق على القاعدة.. وأخذ المخوزقاتى يطرق على القاعدة الخشبية بمطرقة ثقيلة نسبيا ليهبط جسم الرجل تدريجيا فيما الخازوق يخترق جسده وعمد الجلاد إلى توجيه رأس الخازوق حتى لا يخترق الكبد والقلب ليبقى البطل على قيد الحياة إلى أن ظهر سن الخازوق تحت جلد خلفية الكتف الأيمن للبطل، ثم نفذ من الجلد.. وبقى البطل حيا على الخازوق فترة استطالت حتى يكون عبرة لبقية المقاومين، ثم يحكى المؤلف كيف أن الأسطورة الشعبية التى تروى ملحمة المقاومة أكدت أن الناس المختبئين فى عمق الغابة وفوق أشجارها ووراء صخورها سمعوا بآذانهم صوت أنين الحجارة والشجر، وكيف أن حجارة قنطرة الجسر وضفتيه انهمرت دموعها من شدة المشهد وهوله.

وبعد حوالى خمس سنين من قراءتى للرواية كنت بصحبة صديقى المناضل السورى على فتال «أبوربيع» فى رحلة عمل سياسى لإلقاء سلسلة محاضرات وعقد لقاءات مع الشباب العربى الوحدوى الناصرى الدارسين فى يوغوسلافيا وبلغاريا ورومانيا وكانوا من جنسيات مختلفة، وذهبنا بالقطار من تسالونيك شمال اليونان إلى سكوبيا فى يوغوسلافيا، ومن ثم إلى بقية المدن التى بها جامعات يدرس بها أولئك الشباب، وفى إحدى المناطق الجبلية وأثناء جولة فى المعالم التاريخية دخلنا قلعة قديمة وإذا بى أفاجأ بأن الأتراك العثمانيين بنوا بعض جدرانها من جماجم القتلى الصرب والبوسنيين الذين قتلوهم أثناء الغزو وخلال المقاومة!
ومرت السنون طويلة إلى أن تفككت يوغوسلافيا ووقع الاقتتال بين صربيا وبين البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة، وبدا الصرب فى مشاهد وحشية، ومن فورى تذكرت رواية إيفو أندريتش «جسر على نهر درينا» وتذكرت زيارتى للمنطقة لأعرف أن رد الفعل الصربى قد جاء متأخرا على ما فعله الأتراك العثمانيون بقيادة جمال باشا السفاح «إذا لم تخنى الذاكرة» فى الشعوب التى غزوها!.. بل إننى ساءلت نفسى: لماذا تذهب بعيدا ولديك فى بلدك مصر نموذج تاريخى على ما فعله الأتراك؟! وتذكرت غزو العثمانيين لمصر ومن قبلها الشام عامى 1515 و1516، وكيف قتل السلطان قنصوة الغورى، ثم قام البطل المصرى طومان باى بتنظيم المقاومة المصرية ضد الغزاة إلى أن قبضوا عليه وأعدموه وصلبوا جثمانه على باب زويلة.. ونهبت القاهرة، وتم تجريف أخطر وأثمن وأهم ما تملكه المحروسة ألا وهو رجالها الحرفيون التقنيون المهرة فى فنون الهندسة المعمارية والتشييد والصاغة والخيامية والنحت والنجارة والحدادة.. جرفهم سليم الأول وأخذهم معه ليبنوا القصور والجوامع!!
ومادام أن السياق تركيا فإن الشىء بالشىء يذكر، إذ بعد سنين طويلة أيضا دعانى أولادى لرحلة إلى تركيا منذ عامين تقريبا، وهناك سألونى عن سر فخامة القصور والمساجد فخامة وإتقانا لافتين للأنظار، فقلت من فورى! هذا بعض من آثار أجدادكم المصريين الذين أخذهم العثمانيون قسرا، ثم إن السر فى فخامة وضخامة المساجد يكمن فى أن سلاطين بنى عثمان، وكان معظمهم قساة غلاظا لا يعرفون الرحمة وليس لديهم ولا لدى شعبهم من تراث حضارى وثقافى سوى تراث الحروب والغزو والكر والفر، قد استمعوا من فقهاء السلطان ما يفيد أن كل ذنوب الإنسان وخطاياه وجرائمه تغفر له إذا بنى مسجدا لله، لأن الله سيبنى له قصرا مثله فى الجنة.. ولذلك وجدناهم يبالغون فى بناء المساجد وفخامتها واتساعها لتكون قصورهم فى الجنة مماثلة لها!

وعندما ذهبنا أولادى وأنا إلى كنيسة أيا صوفيا وجدناها قد تحولت إلى مسجد، وانبهر الأولاد بقوة الأتراك العثمانيين، ومن فورى بادرتهم أيضا: وهل تبتهجون كذلك عندما تزورون المساجد التى تحولت إلى كنائس فى الأندلس؟ وأكملت: إن ما شاهدتموه يعد مخالفة صريحة لصميم المسلك الإسلامى، لأن الأصل هو ما فعله سيدنا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، عندما ذهب إلى أورشليم «القدس» وزار كنيسة القيامة وخرج ليصلى خارجها وسأله من كانوا معه: لماذا لم تصل داخلها وقد فتحنا البلاد وصرنا سادتها؟ فأجاب من فوره، رضى الله عنه: حتى لا يأتى من بعدى من يحولها لمسجد، ويقول لقد صلى عمر بداخلها! ثم طفنا جوانب أياصوفيا وإذا بالجرائم الحضارية تتكشف، إذ ظهرت محاولات طمس الزخارف والأيقونات المسيحية داخل مبنى الكنيسة وكان التشويه بشعا ولم تفلح محاولات التغطية عليها بلوحات خطية كبيرة مكتوب عليه أسماء النبى، صلى الله عليه وآله وسلم، وأسماء صحابته الأربعة الراشدين!

هذه الحكاية عن الأتراك العثمانيين وما فعلوه تؤكد أن ما سمى بـ«الإسلاموفوبيا» أى الخوف المرضى من الإسلاميين، التى انتشرت فى كثير من دول ومجتمعات الغرب الأوروبى والأمريكى بل وبعض بلاد أفريقيا وآسيا، ليست وليدة ظهور وجرائم منظمات مثل القاعدة والجماعات الجهادية، ولكن لأن ما فعلته وتفعله هذه المنظمات أيقظ لدى الأوروبيين ما كانوا قد تناسوه ودفعوا به إلى خلفية ذاكرتهم التاريخية منذ أيام الغزو العثمانى لأوروبا، وهو غزو لم يتورع عن ارتكاب جرائم بشعة بحق الشعوب التى تعرضت لغزوه!
وها نحن فى مصر وأمام إرهاب وجرائم الذين يحاربون وطننا وجيشنا وشرطتنا ويروعوننا بالقنابل والمتفجرات والسيارات المفخخة وبالبنادق والمدافع والألغام، ويقطعون الطريق ويسدون الشوارع ويلوثون كل مساحة تصلح للتلوث بالكتابة السوداء البذيئة الخالية من أى خلق إسلامى أو إنسانى، يكاد يستيقظ فى أذهاننا جرائم ارتكبت فى حق مصر خلال بعض فترات المدى الزمنى الممتد من القرن السابع الميلادى وإلى الآن، وقد يسألنى سائل: لماذا تبدو وكأنك تختص العثمانيين والإسلاميين بهذا الرصد الكاشف للجرائم والأخطاء؟ وأقول: إن الجرائم والأخطاء لا تتمايز عن بعضها البعض سواء ارتكبها الهون والجرمان، والقوط والماجيار والوندال والفرنجة فى العصور الوسطى، والاستعماريون الهولنديون والبرتغاليون والأسبان والفرنسيون والبريطانيون والأمريكان فى العصور الحديثة! غير أن ما نعانيه الآن فى وطننا هو من الأتراك الأردوغانيين والإخوان المسلمين والقاعدة فى المقام الأول.. وهى مسيرة لا تنفصل سواء بالخازوق على جسر نهر درينا أو بالدماء على صفحة النيل.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة