مارس السادة المُفَزِّعون هوايتهم كالعادة، صوتوا فى كل المنابر، صرخوا فى كل الصحف، ولولوا على مواقع التواصل الاجتماعى، لوهلة يحسب الواحد أن المصيبة قد وقعت الآن، وأن الأزمة حاصرته، لا مخرج منها ولا سبيل عنها، وبعد انتهائه من قراءة ما كتبوا أو سماع ما قالوه يظن الواحد أن الدنيا انتهت، وما عليه إلا انتظار «تتر النهاية» مصحوبا بموسيقى تصويرية حزينة، وفى الخلفية يسمع الكورال يئن «يا عينى يا عينى يا عينى ع الولد» وسرعان ما تنتابه حالة من الندم، ليدخل فى دوامة الأسئلة: لماذا لم نسمع كلام هذا الكاتب الهمام؟ لماذا لم نعتبره مخلصنا ومنظرنا وقائدنا؟ ولماذا لم نأمر الخطاطين المهرة بكتابة كلام هذا الكاتب الوطنى «الوحيد» بماء الذهب؟ ولماذا لم نعلق مقولاته على حوائط المطارات والموانئ وفى الشوارع والميادين؟
آخر جولات السادة المُفَزِّعون كانت عقب إصدار الحكومة قرارها باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، فقد مارس هؤلاء ضغطا غير عادى بعد إصدار هذا القرار، زاعمين أن الحكومة بهذا القرار قد صنعت إرهابا جديدا، وأنها منحت الجماعة قبلة الحياة لتفوز بمظلومية تاريخية جديدة، وأنها أعادت الجماعة إلى العمل تحت الأرض بعد أن ساهم عملها العلنى فى إبراز سوآتها للجميع، وبالطبع طرح كهذا جدير بالاحترام، وبمجرد أن يضع أمامك أحد هذه المقولات «المنطقية» ستجد نفسك «تلقائيا» متجاوبا مع المقال، لتدخل فى موجة مراجعة لما ناديت به قبل: هل كنا على حق حينما ناديا باعتبار الإخوان جماعة إرهابية؟ هل لم يكن لدنيا خيار آخر؟ ألم يوجد سبيل لتجنب هذا القرار الذى سيتسبب فى «حرب أهلية» بحسب زعم الكاتب؟
تلك الحيرة التى ستتملك منك، وهذا التخبط الذى ستعيش فيه «لوهلة» سيزول بمجرد ما تستدعى السياق العام لكلام الكاتب الهمام، ولو فكرت قليلا فيما يكتب باعتباره بشرا عاديا ينطق عن الهوى أحيانا، ويصيب ويخطئ أحيانا أخرى وليس باعتباره معصوما من الخطأ والسهو والغرض، ستجد أن معظم ما كتبه أو قاله هذا الكاتب الخبير لم يكن سوى خلط للأوراق فحسب، فقرار الحكومة لم يصنع إرهاب الجماعة بل على العكس، إرهاب الجماعة هو الذى صنع قرار الحكومة، كما أن الرهان على أن يفوز الإخوان بمظلومية تاريخية رهان فاسد شكلا وموضوعا، لأن معركة الإخوان الآن مع الشعب وليست مع السلطة، وتلك المعركة جاءت بعد أن تجسدت فى حكمهم كل معانى الفساد والاستبداد، ولذلك فقد حدث متغير تاريخى كبير، إذ تبادل الإخوان المواقع مع السلطة، ولم يعودوا ذلك الفصيل الذى يتعرض للتنكيل من الحاكم، لأنهم أصبحوا حكاما مستبدين مثلهم مثل غيرهم، أما الزعم بأن هذا القرار أعاد الجماعة إلى العمل تحت الأرض فهذا هو التدليس بعينه، فلم تترك الجماعة العمل تحت الأرض أصلا فى أى من مراحلها، ولعل مباركتهم للتهريب الذى يتم عبر الأنفاق فى سيناء ودعمهم المستمر له هو ما يجسد تملك فكرة «العمل تحت الأرض» عند الإخوان ماديا ومعنويا، وبرغم أن ثورة 25 يناير قد منحت الجماعة حرية العمل العام لكنها لم تترك العمل تحت الأرض وفضلت أن تبقى «الجماعة» خارج الأطر القانونية الواضحة، حتى بعد أن أصبح للجماعة حزب، وتواصلت الجماعة فى أثناء حكمها مع كل التنظيمات الإرهابية القديمة والمستحدثة، وليس أدل على هذا من موقف الجماعة عندما تم اختطاف سبعة من جنود مصر على يد الجماعات الإرهابية فى سيناء وظهر مرسى ليقول إنه حريص على أرواح الخاطفين والمخطوفين، كما قال لقادة الجيش الذين عرضوا عليه خطة لتحرير الجنود إنه لا يرضى أن يقتل مسلمون مسلمين، إلى غير ذلك من وقائع وأدلة تؤكد بما لا يترك للشك منفذا أن الجماعة لم تترك العمل السرى وأن موجات التفزيع التى شنها هذا الكاتب أو ذاك ليست إلا «تفريغا» لما فى جوف السادة المفزعين، والله أعلم بما فى ذلك الجوف.