تناولت أمس جانبا من الأجواء السياسية التى كانت تعيشها جامعة القاهرة حين كنت طالبا فيها مطلع ثمانينيات القرن الماضى، وذلك كمدخل للحديث عن موقف عظيم فعله معى الدكتور عبدالملك عودة، رائد الدراسات الإفريقية فى مصر، وكان وقتها يشغل موقع عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة.. وأستكمل.
فى عام 1980 جاء موعد انتخابات الاتحادات الطلابية وفقا للائحة 1979، والتى حدت من نفوذ الاتحاد، وأدخلت أمن الدولة فى الجامعة، بهدف مقاومة النشاط اليسارى فى الجامعة، وقررنا كطلاب ناصريين الدعوة لمقاطعة الانتخابات، وتوزيع بيان سياسى يدعو إليها بتوقيع نادى الفكر الناصرى، وسهرنا على طباعة البيان بطريقة «الزنك»، وقسمنا أنفسنا لتوزيعه، وكانت كلية الإعلام من نصيبى ومعى زميل اسمه «أيمن سالم» لا أعرف أين هو الآن فى أرض الله الواسعة.
دخلت المدرج حاملا 500 نسخة لتوزيعها بسرعة، وأثناء خروجى فوجئت بحصارى من أربعة طلاب مفتولى العضلات يحملوننى «هيلا بيلا» إلى مكتب عميد الكلية الدكتور عبدالملك عودة، وفيه دارت وقائع القصة.
طلب الدكتور «عودة» انصراف «مفتولى العضلات»، قائل: لى بأبوة وأستاذية عملاق: «أهلا بيك يا ابنى، تشرب إيه؟»، فشكرته بأدب، لكنه طلب لى «ليمون»، وسألنى عن كليتى فقلت: «أنا فى كلية دار العلوم». فواصل: «مش هسألك ليه موزعتش البيان فى كليتك، وكل طالب له حق التعبير عن رأيه السياسى، المهم أن يتحمل مسؤوليته، وأنا لى تحفظ على اللائحة الجديدة، لكن وسيلة تعبيرى قد تختلف عن وسيلة تعبيرك».
دخل «الساعى» ليبلغ الدكتور عبدالملك أن العقيد «عبدالمسيح» ضابط أمن الدولة المقيم فى المبنى يريد الدخول، فأبلغه: «خليه ينتظرنى شوية»، ثم توجه لى ناصحا: «الضابط سيأتى، واضبط أعصابك، وتعامل معه بثقة، وأنا هرفض أى محاولة للتحقيق معاك خارج مكتبى، وحمايتك مسؤوليتى حتى تخرج من باب الجامعة»، ثم دخل الضابط، ليقول له الدكتور عبدالملك: «ممكن تشوف شغلك هنا، واعتبرنى غير موجود، لكن أرجوك دول أولادنا»، هز «عبدالمسيح» رأسه، وبدأت أسئلته: «اسمك وكليتك وهات بطاقتك»، وانتقل إلى أسئلة: «البيان ده مين اللى عمله؟»، فأنكرت معرفتى به- هذا كان اتفاقنا- فسألنى: «طيب أنت ليه جيت هنا؟»، أجبت: «عشان أسأل عن إمكانية دراستى للصحافة لأننى أريد أن أكون صحفيا»، بدت إجابتى غير مقنعة للضابط، فتدخل الدكتور عبدالملك قائلا تأييدا لى: «فيه طلاب من كليات تانية دايما بيسألوا عن الحكاية دى».
واصل الضابط أسئلته دون أن يحصل منى على شىء سوى البطاقة الشخصية التى لم أستردها حتى الآن، ولما هم بالانصراف، قال له الدكتور عبدالملك: «الطالب معايا شوية»، ثم نادى على شخص ليقول له: «مع الطالب حتى باب الجامعة»، سلمت على الرجل ممتنا وشاكرا، وخرجت من الجامعة لأنتظر المجهول، لكن لم يحدث لى شىء، وكلما قرأت أو سمعت عن الدكتور عبدالملك عودة أذكر له هذا الموقف النبيل، فليرحمه الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة