رغم بقائه 27 عاما مريرة فى السجن والاعتقال، إلا أنه لم ينتقم ولم يصف حساباته مع جلاديه حين تولى السلطة، لكنه وضع مصلحة بلده وشعبه نصب عينيه، واستطاع أن يمحو آثار سنوات طويلة من التفرقة العنصرية، وجرائم البيض مثل القتل والحرق والاغتصاب والاستيلاء على أراضى السود وتهجيرهم، وصنع معجزة عير مسبوقة فى التاريخ، مفرداتها التسامح والحزم والتصالح، وجعل جنوب إفريقيا من الدول الصاعدة اقتصاديا فى العالم والأولى إفريقيا، لأنه ابتعد عن الماضى واهتم بالحاضر والمستقبل.
حين تسلم مانديلا الحكم كان نصف السكان تحت خط الفقر، والمواطنون السود يعيشون حياة أقرب إلى العبيد، والمناطق التى يسكنونها بلا مياه أو كهرباء أو صرف صحى، واستطاع أن ينفذ برامج طموحة لمكافحة الفقر وتوسيع الخدمات الاجتماعية والتعليم والصحة والبطالة، وتعافت بلاده فى غضون سنوات قليلة وسبقت الزمن واستطاعت أن تحقق معجزة اقتصادية.
أما معجزة مانديلا الكبرى فكانت لجنة الحقيقة والمصالحة، التى تولت ملفات القتل والاغتصاب والتعذيب فى ظل نظام الفصل العنصرى، وأزاحت عن كاهل بلاده شبح عودة الحرب الأهلية، وهيأت الإجواء لبداية نظيفة وحقيقية، بعد إعادة الحقوق لأصحابها واعتراف الجناة بالحقيقة، ولو لم يفعل مانديلا ذلك لكانت بلاده قد احترقت عن كاملها لبشاعة وبربرية جرائم البيض، وللأسف الشديد لو استوحت مصر تلك التجربة بعد 25 يناير، لكانت أحوالنا أفضل ألف مرة من الآن.
تحققت أسطورة مانديلا لأنه سعى إلى النضال ولم يتكالب على الحكم، فلهثت خلفه السلطة ولكنها لم تسجنه وراء أسوارها، وتخلص منها بسرعة وعاد لصفوف الجماهير مواطنا عاديا يخدم شعبه، ويدافع عن قضاياه فى كل المحافل، ومنحه العالم أفضل لقب فى التاريخ "محرر وطنى مخلص"، وحاز أوسمة ونياشين من الشرق والغرب لم ينالها غيره، وسام الحرية الأمريكى وليينن الروسى واليزابيث البريطانى وجائزة نوبل للسلام، وتسابقت دول العالم لتكريمه والاحتفاء به.. وندعو الله أن يرزق مصر بزعيم مثله.