لا أنسى أبدا تلك الكلمة التى كتبها صديقى الكبير الأستاذ عزت القمحاوى فى أكثر من مقال منذ عهد مبارك، مقارنا بين الأسعار والدخل، قائلاً: إننا نتقاضى أجورا «اشتراكية» بينما نشترى السلع بأسعار «رأسمالية» وهو فى هذا التلخيص الموجز يكشف تلك الخديعة التى نعيش فى ظلها منذ عشرات السنين والتى كان من آثارها أننا قمنا بثورة تحت شعار اشتراكى أصيل هو «عيش حرية عدالة اجتماعية» فلا يستطيع أحد أن ينكر أن معدلات النمو فى عصر مبارك كانت مقبولة، وأن المشاريع التى كانت تقام وقتها كانت تسهم بشكل فعال فى تطوير الأداء الاستثمارى- وإن كان معظمها ذا طابع «مقاولاتى» يستهدف الربح السريع- لكن ما لا يستطيع أحد أن ينكره أيضاً أن الثروة كانت حكرا على طائفة بعينها، وأن دائرة المصالح كانت شبه مغلقة، وأن الغالبية العظمى من الشعب المصرى كانت تعيش على الكفاف، ولهذا كان التمرد كبيرا، وكانت الثورة عارمة، فهل تغير الأمر بعد الثورة، وهل فارقنا تلك «الأجور الاشتراكية» والأسعار الرأسمالية؟
الإجابة هى «لا» وإن شئت قل «ألف لا» والواقع يؤكد أن الأجور التى كنا نتحصل عليها شهريا قلت إذا ما قارناها بمستوى الأسعار، وقل معها أيضا سعر المواطن الذى أصبح لا يفكر إلى فى إشباع احتياجاته الأساسية، وهو ما يجعل سعره فى سوق الآدمية منخفضا، ففى الحكومات الاشتراكية لا يتكلف المواطن من أعباء المعيشة إلى القليل، فالتعليم والعلاج مجانى، والمواصلات مدعومة، والوقود مدعوم، وكذلك الكساء، ولهذا فلا حاجة للمواطن أن يحصل على الكثير من الأموال، أما فى الدول الرأسمالية، فلا شىء مدعوم، ولذلك يحصل المواطن على أجر مرتفع يعينه على العيش والادخار والاستثمار أيضاً، ولأننا كنا فى نظام «استهبالى» كان الحكام يضحكون علينا بأن يعطوا لنا أجورا منخفضة مع أسعار عالية، أما الدعم فقد كان ينهب معظمه، ما بين الدولة والموزعين، وهذا هو النصب العلنى.
أنت الآن فى قلب المؤامرة المفجعة، فلا الأسعار قلت ولا الأجور ارتفعت، وبدلا من أن تعمل الحكومة والرئاسة على تقليل الفوارق بين الأسعار والأجور تعمل الآن جاهدة على زيادة الفارق، وبعد قليل سيتم رفع الدعم تدريجيا عن الوقود، كما سيتم رفعه عن الخبز والمواصلات، وستجد نفسك مطالبا بأن تلتزم بتعليمات قرض صندوق النقد الدولى الذى يلزمك بأن تكون أسعارك متطابقة مع أسعار الدول الرأسمالية الكبيرة، وستشترى الوقود بأسعار أمريكا التى يتقاضى الفرد المتوسط فيها ما يقرب من عشرين دولارا فى الساعة، بينما لا تحصل أنت على 20 دولارا فى الأسبوع، فأى إذلال أكبر من الذى سنعيشه، وأى استهبال ذلك الذى تمارسه الحكومة.
لا تضع الحكومة فى حسبانها أى شىء غير أن تحصل على قرض صندوق النقد الدولى، وذلك لأنها تتخيل أن القرض شهادة دولية بقدرة الاقتصاد المصرى على النهوض، لكنها لا تضع فى حسبانها أن هذا الـ«نهوض» الذى تسعى إليه سيقابله «ركود» فى السوق نتيجة ارتفاع الأسعار وتدنى الأجور، وهو ما يجعل الأموال التى كانت فى يد قلة، ستتمركز فى يد «أقل» ونلتقى بعد انتخابات مجلس الشعب التى ستكون «كمينا» آخر سنتجرع ويلاته كما تجرعنا ويلات الانتخابات والاستفتاءات السابقة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة