كان عامى الرابع عشر يتجاوزنى.. ومصر تستحم بدماء أبنائها فى سيناء!! الظلام يلف النفوس والمكان، مقر منظمة الشباب الاشتراكى بالمنيا، قصر هدى هانم شعراوى، صورة عبد الناصر بجوار الست هدى على الحائط، شباب وشبات، يسلطون نظرهم نحو الشاشة البيضاء فى صالة الطلائع، توقفت الأنفاس، عبد الناصر يُعلن التنحى، الجميع يصرخ فى صوت واحد يحمل كل الآم وأحلام الثورة المجهضة: "لا يا ريس"، تدفعنا كمياه شلال إلى الشارع، لم نكن وحدنا، انبثق وعيى السياسى والإنسانى فى تلك الليلة، ولدت من رحم الهزيمة فى 9/10 يونيو 1967.
كثيرون كتبوا عن ذلك الموقف..تلك الظاهرة متعددة التفسير، الظاهرة الأبوية الشعبية، لكن قليلون من ولدوا فى تلك الليلة من عمق الجرح.
كانت مصر حينذاك كما كتب عنها عبد الرحمن الأبندوى وغنى عبد الحليم حافظ: "عدى النهار والمغربية جايه تتخفى ورا ضهر الشجر.. وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر.. وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها.. جاها نهار مقدرش يدفع مهرها.. أبدا بلدنا للنهار.. بتحب موال النهار.. لما يعدى على الدروب.. ويغنى قدام كل دار. غاب كل شىء من ذاكرتى وتبقّى حب الوطن المتجسد فى جمال عبد الناصر رغم كل ما يقال عن ناصر ولكن محبته فى القلوب أهم إنجازاته، عاد ناصر وأعاد بناء الجيش والأهم أعاد بناء الروح فى تلك الأمة المكلومة، فى الصعيد حيث ولدت وترعرعت كانوا يفهمون عودة ناصر على أنها عودة كبير العائلة للأخذ بالثأر للشهداء وللأرض وللثورة.
دار ذلك فى مخيلتى وأنا أسمع حمدين صباحى يعلن باكيًا عن رغبته فى الانسحاب من العمل العام والتيار الشعبى، وألا يرشح نفسه مرة أخرى للرئاسة، وما لم يعلمه حمدين أنى أؤيده بشدة فى ذلك الإحساس الضميرى، وأرفض أن يتحول هذا الشعور إلى قرار عملاً بشعورى كصعيدى، لن يأخذ حمدين ثأر محمد الجندى وعمرو سعد وآخرين بالانسحاب من ميدان القتال، ولو عاد الشهداء للحياة الدنيا لرفضوا ذلك القرار الصحيح ضميريًا والخاطئ سياسيًا، لأن عدم استمرارك فى النضال هو هروب من ميدان القتال.
فى حياة الإنسان مواقف كثيرة يتناقض فيها الإنسانى مع السياسى، العبقرى هو من يستطيع أن يضم جناحى الضمير والنضال سويًا إلى أعلى، يغرد بحثًا عن الحرية، ومنذ زمن طويل إبريل 1976، التقيت حمدين، كان قائدًا ناصريًا ورئيسًا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، وكنت فى صفوف الحركة الاشتراكية (ماركسيًا)، وكانت التناقضات تتسع بين الناصريين والماركسيين ولكن الفتى حمدين كان له مكانه مختلفة فى قلبى، تنبثق من قبس شعاع المحبة الذى ولد فى قلبى تجاه عبد الناصر، عاش ناصر فى ثنايا روحى وسكن الفتى حمدين حشا الوطن..وها أنا الآن.. ابكى عمرو سعد ومحمد الجندى وأبحث عنهم فى بريق دموع تنهمر على جبين الوطن الملكوم.. والأمهات الثكلى.. ولكن ليس بالانسحاب والتراجع والتنحى نعيد هؤلاء الشهداء إلى مرمى البصر ونحتفل معهم فى يوم الشهيد عند بوابة النصر بميدان التحرير، فلم ينسحب ناصر بعد استشهاد عبد المنعم رياض، ولم أترك موقعى بعد استشهاد أعز الناس إلى من تل الزعتر وحتى حصار بيروت.الروح قوية والجسد ضعيف، ولكن الضمير أقوى ومن أنين آلام محمد الجندى تحت التعذيب لابد أن نستمد خيوط قوتنا المفتقدة ونقاتل جنبًا إلى جنب بحثًا عن القتلة.. وأن نتسربل بالحلم بحثًا عن الحقيقة، وأن نضع رءوسنا على صدر الوطن وأمهات الشهداء بحثًا عن الثورة حتى لا تتسرب مثل المياه من بين أصابعنا، وحى على الكفاح حى على الفلاح وقد أقبلوا فلا مساومة والمجد للمقاومة.