كثيرون كتبوا عن الثورة، كل واحد كان حريصا على صورته، بعضهم أراد أن يبعث للقارئ رسائل مفادها أن وجوده كان محوريا وأنه شاهد بعينيه كل التفاصيل، «الأنا» والاستشهاد ببعض الأسماء المتواجدة فى الميدان والوقائع اليومية العادية هى مادة معظم الكتب التى تناولت ثورة يناير، والتى تفقد حرارتها مع مرور الوقت. وأعتقد أن كتاب الدكتور عماد عبد اللطيف بلاغة الحرية (معارك الخطاب السياسى فى زمن الثورة)، الذى صدر عن دار التنوير قبل أيام، يعد ـ من وجهة نظرى ـ من أفضل ما كتب، لعدة أسباب أهمها أن الباحث الموهوب الشاب تعامل باحترام ومسؤولية مع الموضوع، ولم يستخدم «الأنا» فى رصد الأحداث، ولأنه متخصص فى تحليل الخطاب، درس عددا كبيرا من النصوص المؤثرة فى مسار الثورة، تشمل لافتات الميدان وهتافاته ونكاته وأغانيه وتسمياته، إضافة إلى خطب مبارك ومرسى وبيانات المجلس العسكرى، وقام بتحليل تغطية التليفزيون المصرى للأحداث، كما خصص قسما كاملا لدراسة خطاب الدعاية الانتخابية.
الكتاب قدم تحليلا علميا رائعا للخطابات الثلاثة الكبرى التى استحدثتها الثورة، خطاب الميادين الاحتجاجى الثورى وخطاب الشاشات الذى حاول إجهاض الثورة وخطاب الصناديق الدعائى الحشدى، الخطابات الثلاثة دخلت فى علاقات صراع وتواطؤ وتحالف عديدة، سعى الكتاب لرسم هذه العلاقات ونقل صورة حية لمسرح الخطاب السياسى الذى شغلته.
فى بلاغة الميادين يرى أن النظام البائد وصل إلى أقصى حدود العبث بالكلمات، مما أدى إلى وجود فجوات كبيرة بين ما تقوله اللغة وما يوجد على أرض الواقع، وتشبع اللغة بالاستبداد واستخدام الأوامر والنواهى، وأن العبث بهذه اللغة جعلها ساحة لادعاء السلطة بامتلاك اليقين التام والحقيقة المطلقة بواسطة استخدام أدوات التوكيد جميعا، ويرى أن الثورة على العبث بالكلمات هى ثورة على بلاغة تضليلية مستبدة مراوغة، لصالح تأسيس بلاغة صادقة تحررية مباشرة.
استدعى عماد إحدى أساطير سفر التكوين والتى تحكى أن أهل الأرض بعد أن نجوا من الطوفان كانوا يتكلمون لغة واحدة، وتشيع بينهم روح التعايش والتعاون، ويجمعهم حلم واحد هو أن يبنوا مدينة عظيمة ويشيدوا فيها برجا تبلغ قمته السماء، وقبل أن يتحقق حلمهم اختلفت لغاتهم وتباينت خطاباتهم فتخاصموا وتصارعوا، وكفوا عن البناء، فى الموجة الأولى من الثورة المصرية، كانت ميادين مصر تتكلم لغة واحدة وخطابا واحدا، مفرداته (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية)، وشعاره (الجيش والشعب.. إيد واحدة)، خطاب يترك الدين لله ويجعل الوطن للجميع (مسلم.. مسيحى.. إيد واحدة)، وينحاز بلا تردد إلى نظام دولة (مدنية.. مدنية)، حينها بدا أن حلم بناء دولة عظيمة أقرب ما يكون، غير أن استفتاء مارس 2011 على التعديلات الدستورية كشف عن عمق اختلاف الألسنة والمصالح، فكانت أولى معارك حرب الخطابات، ولم تزد الانتخابات النيابية والرئاسية هذه الحرب إلا اشتعالا.
يقول أستاذ البلاغة فى كلية الآداب جامعة القاهرة أنه بدأ كتابه بتشبيه التواصل السياسى بأنه عرض جماهيرى على خشبة مسرح الوطن، وأنه رصد تزايد مساحات الضوضاء والتنافر بين الأصوات والعازفين المتنافسين، وأنه يخشى أن تشبيهه هذا قد يعجز عن تقديم وصف دقيق لحالة الصراع العميق بين الخطابات المتقاتلة التى رأيناها أثناء الموجة الثانية من الثورة فى نوفمبر 2011، وفى جولة الإعادة فى الانتخابات الرئاسية، ويخشى أن «مسرح الحرب» قد يكون هو الفضاء الأكثر دقة فى وصف معركة القصف الكلامى بين القوى السياسية فى الوقت الراهن، هذا التخوف الشديد من الآثار الباهظة لحروب الكلام يتطلب دق ناقوس الخطر، قبل أن تؤدى معارك الكلام إلى معارك الأجساد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة