ليلة الاثنين الماضى لم تكن ليلة عادية. خيال أكبر كتاب العالم لا يستطيع أن يصل إلى ماجرى فيها. صمويل بيكيت الكاتب الإنجليزى الشهير صاحب المسرحية العظيمة «فى انتظار جودو»، لم يكن يعرف ذلك، والأبطال ينتظرون جودو الذى لا يأتى أبدا. دينو بوتزاتى صاحب الرواية العظيمة «صحراء التتار»، التى انتظر فيها البطل فى القلعة هجوم التتار حتى بلغ عمره ستين سنة، ولم يأت التتار، لم يكن ليعرف ذلك. النهايات المفتوحة على الحلم الذى لا يتحقق كثيرة، وكلها ابنة أفكار فلسفية تشبع روح القراء أو المشاهدين على الأرض، لكن فى النهاية، يجد كل شخص نهاية لما يجرى حوله فى الحياة. ليلة الاثنين الماضى كما تعرفون كانت ليلة إذاعة حوار الدكتور محمد مرسى مع الإعلامى عمرو الليثى. حوار أعلن عنه قبله بيوم، وظلت قناة المحور تذيع الأغانى الوطنية طول الليل والحوار لايذاع، انفجرت أرواح الشباب المصرى بالفكاهة والسخرية على كل مواقع التواصل الاجتماعى، وكانت أيضا ليلة إذاعة حفل الأوسكار التى ينتظرها الشباب والناس فى كل العالم. لن أنقل لكم أمثلة من التعليقات الساخرة فأكثرها نقلته الصحف والبوابات الإلكترونية فى حينه. ولم أكن هيأت نفسى تلك الليلة لسماع الحوار. رغم أننى أسهر طوال الليل دائما. فقط دخلت على موقع تويتر كالعادة لأرد على بعض من يتابعوننى. كنت عائدا إلى البيت مرهقا جائعا من قضاء يوم كامل طول النهار فى الخارج. ما إن دخلت على تويتر حتى وجدت هذا السيل من التعليقات الساخرة من تأخر إذاعة الحوار.. طبعا لم أكن اتصور أبدا أن حوارا مسجلا مع رئيس الجمهورية يمكن أن يتأخر إلا قليلا. دقائق تذاع فيها الأغانى الوطنية التى مللنا منها على طول العمر، بالذات حين تذاع قبل كلام الرئيس، أى رئيس، لأننا لانقل وطنية عن أحد، وليس من الضرورى أن يحتكر الرئيس الوطنية، وفى كثير جدا من الأحيان منذ عصر السادات يخيب الرئيس الأمل، وحتى الآن طبعا. كانت التعليقات الساخرة تنهمر أمامى بينما أنا أفكر هل هذا ممكن؟ هل حقا هناك عطل فنى؟ وهل السيد الرئيس ضيف مثلا فى برنامج عادى؟ أليس هناك من يقوم بتجهيز كل شىء بحيث ينتهى الرئيس من حواره ويمضى.. وهل عند السيد الرئيس، أى رئيس، كل هذا الوقت؟، طبعا كل التعليقات ذهبت إلى أن المرشد لجماعة الإخوان لم يعجبه الكلام، وأنه يراجعه. وذهبت إلى أن رئيسا لا يستطيع أن ينهى حوارا فى موعده، كيف يدير شؤون البلاد.. وحين تواترت الأخبار من الصحف أن العطل أدى لذهاب الحوار المسجل إلى مبنى التليفزيون بدلا من قناة المحور، ثم لم يذع فى التليفزيون، فقيل إنه سيذاع من مدينة الإعلام. وهكذا كان حوارا للسيد الرئيس يدور البلاد، ليجد ما أو من يستطيع إذاعته. وسواء كان ذلك صحيحا أم لا، فاللافت أن فى الخطاب دعوة للحوار مع المعارضة فى اليوم التالى، وطبعا من يقصدهم الحوار ناموا وشبعوا نوما. هذا إذا كان فيهم من سيقبل. فى الساعة الثانية صباحا نفضت يدى من المواقع الإلكترونية ومن الحوار ومن الأوسكار، ورثيت الشاب الناشط الجميل محمد الشافعى الذى اختطف وقتل كغيره، ووجدت جثته فى المشرحة. قلت لنفسى هذا مابقى لنا من رئيس جاء بصندوق الانتخابات.. وهذا هو الشىء الحقيقى الآن فى مصر، غير ذلك عبث وقبض ريح. فكرت فى ذلك رغم ساعتين أو أكثر من الضحك المتواصل.. ومن تويتات ذهبية مثل «بعد قليل لن تجد القنوات التليفزيونية أغانى وطنية، وستذيع أغانى بلاد أخرى».. أو «طلع علينا متحدث باسم الإخوان المسلمين يقول إن الحوار حصرى ويذاع الآن، لكن لا يراه غير المؤمنين، أما الليبراليون والعلمانيون فلا يرونه، ولا يحق لهم أن ينتظروه» تويتة لخصت الأزمة كلها التى أدت لمقتل محمد الشافعى وعشرات غيره من أجمل شباب الوطن.
وداعا جلال حزّى:
لمنشأة المعارف فى الإسكندرية تاريخ طويل، يمتد أكثر من سبعين سنة. ولمكانها طلة رائعة من ناحية على شارع سعد زغلول، وأخرى على شارع الغرفة التجارية من الخلف. فهى هكذا فى قلب محطة الرمل، ولايمر أحد إلا ويمر عليها أو يراها أمامه، جلال حزى صاحب ومدير المنشأة، والناشر العظيم الذى أخلص للمهنة طول حياته التى عاصرت كل العهود، من الملكية حتى الجمهورية.. ودع الدنيا يوم الأحد الماضى، وتم دفنه يوم الاثنين فى مقابر الروم الأرثوذكس فى الإسكندرية عن عمر ناهز ثمانية وتسعين عاما.. وحتى اللحظات الأخيرة كان جلال حزى حاضر الذهن، حلو اللقاء، هو الرجل الذى مرت عليه أحداث وأحداث.. هو بلا منازع شيخ الناشرين العرب.. مرّ عليه كبار الكتاب فى كل العصور، العقاد الذى قال عنه فى الخمسينات لو كانت هناك جائزة تعطى لأحسن ناشر، لأعطيت لجلال حزى. لقد حصل جلال حزى على هذه الجائزة بعد سنوات حين صار هناك اتحاد ناشرين فى مصر والعالم العربى، توفيق الحكيم وحسين فوزى ونجيب محفوظ وطه حسسين، كانوا يمرون عليه مرورا طويلا يتناقشون معه فى كل شىء ولا تكون لهم زيارة للإسكندرية إلا وفيها لقاءات مع جلال حزى الذى عاصر النشر حين كان تقريبا أدبا وروايات، حتى تنوع فى شتى فروع المعرفة. كان دائم التشجيع للأجيال الجديدة فى شتى فروع المعرفة والأدب. كان يعرف أن المستقبل يتقدم بالأجيال، منحه الله طول العمر ليخدم الثقافة المصرية والعربية.. رحمه الله وجعله مع القديسين.. وداعا أيها العظيم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة