ولد بطلنا فى يوم النكسة 6 يونيو عام 1967، فأتى ميلاده وكأنه مخاض ألم لأم وأمة، كان طفلا جميلا برغم الألم الذى صاحب ولادته كفعل وتاريخ، فأطلقوا عليه اسما مشتقا من أسماء الجمال وسأشير إليه بالباء.
كان «باء» طفل كأى طفل إلا من شىء واحد ارتبط به وهو اسم الأب، فقد كان اسم الأب كفيلا بأن يلفت انتباه الناس إليه، حيث كان الأب أديبا وفنانا ملء السمع والبصر فاقت شهرته الآفاق، وكان هذا وحده هو الذى يميزه على الأقل بالنسبة للغرباء.
يظن العامة ظنا هو فى أغلبه ظن سوء أن أبناء المشاهير حياتهم عادة ما تكون حياة رائعة، فيكفى أن القاصى والدانى يعرفونهم ويشيرون إليهم بآبائهم أو أمهاتهم، بينما تلك هى أزمتهم الحقيقية.. فمنذ أن وعى «باء» الحياة وضعه مدرسوه فى مدرسته، ثم بعد ذلك فى الجامعة، وضع مقارنة دائمة مع الأب، ولأنه لم يكن كأبيه خلقوا لديه إحساسا عميقا بالدونية وعقدة لم يشف منها من سيرة الأب الذى تملأ موهبته الدنيا ضجيجا، كان «باء» فى معضلة لم يدركها المحيطون به، فهو يحب الأب بل يعشقه، ولكنه لا يستطيع أبدا أن يدنو منه، فالله لم يمنح الابن موهبة الأب.
وبقدر ما كان الأب موهوبا، فإنه أيضا كان يعانى من كثير من العقد، وأكبرها كان علاقته بالمرأة الأولى فى حياته، الأم، وعلى قدر ما كان يكتب عن الحب والمرأة فقد كانت المرأة هى سبب ألمه وعقده التى لم يفطن لها أبدا قراؤه فى الأرض، شرقها وغربها، فقد تركته أمه صغيرا فى بيت جده لتتزوج بعد طلاقها من الأب، فكأنها خانته وهجرته جريا وراء رغبة جنسية، وهى عقدة الذكور فى مجتمع يرى رغبة الرجل فى امرأة حقا، أما بالنسبة لرغبة امرأة فى رجل حتى لو بمنطق ظل راجل فهى رغبة باطلة ويكاد أن يعيش الابن بعارها، وفى المجتمعات الظالمة كمجتمعنا لا تستثنى العقد أحدا، وربما هذه العقدة وغيرها هى التى دفعته إلى أحضان المخدرات وإدمانها، وكما هى البداية دائما، فالحشيش هو سنة أولى مخدرات وبعده يتقدم الدارس للكيف فى درجات أعلى، وقد وصل الأب إلى كل درجات العلا، ورغم هذا ظلت موهبته الفياضة تتدفق ولم تبخل عليه رغم الكيف.
وكان من المنطقى والمتوقع أن يبحث الابن عن شىء يستطيع أن يرثه من الأب، ولأن الموهبة لا تورث فقد ورث عنه ما يسهل توريثه، الكيف، ومع الكيف تستطيع أن تكون ما تريد، فما كان من «باء» إلا أن وجد فيه السلوى الخيال والمعادل الموضوعى للعلا الذى لا يستطيع أن يصله كما وصله الأب، أما تجار الكيف فقد وجدوا فى الابن بقرة حلوبا للمال وتوسيع رقعة التجارة فى الصف الثانى من المشاهير، فى أبنائهم.
صار الابن مدمناً وإن ظل طيب الخلق حسن المعشر فى لحظات الإفاقة، وهى لم تكن تطول.
وما بين الابن والأب كانت أزمة الأم سيدة صابرة على الابتلاء وإن حسدتها النساء، فقد كفلت شهرة زوجها وموهبته حياة رغداء للعائلة وإن لم تمنحها راحة البال أو السعادة ولا حتى الرضا.
كانت آخر مرة التقيته منذ سنوات فى أحد شوارع منطقة المهندسين زائغ البصر، فقد كثيرا من وزنه، وسألته عن حاله فرفع لى أكمام قميصه، فكدت أن أفقد وعيى من شكل ذراعه الذى ينبئ أن صاحبه قد غرز فيه كل أنواع الإبر حتى تصلبت الشرايين، وغصبا عنى سقطت دموع، لم أستطع أن أداريها حزنا على صديق وإنسان جميل، ولكنه ضائع.
وبعد أسابيع قليلة فى الصفحة الأولى لجريدة شهيرة تنشر خبر العثور على جثة «باء» ابن الكاتب الشهير على أحد الطرق الصحراوية بعد اختفائه لأيام، وكان الخبر يوحى بموت صاحبه بجرعة مخدر زائدة، وهى نهاية توقعتها لكن ما لم أتوقعه أن الخبر اختفى فى الطبعات التالية للصحيفة، ذلك لأن شهرة الأب ولوعة الأم كانتا كفيلتين بحجب الخبر بأن الابن مات بجرعة مخدرات زائدة.
كان «باء» ضحية شهرة الأب وإدمانه، ولكن خبر موته المأساوى والخوض فيه لم ينقذه إلا شهرة الأب أيضا التى قتلته.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة