هذا ليس جدلاً فقهياً أو بحثاً فى مسألة دينية، هذا كلام يخص التوقيت، وطبيعة الإحساس البشرى والإنسانى..
أنا لا أناقشك فى فتوى شيوخ الفضائيات، أو شيوخ الجماعة الإسلامية والجهاد وباقى المتطرفين فى سيناء وربوع مصر، أو إقرار شيوخ الجبهة السلفية بأنه لا يجوز تهنئة الأقباط بأعيادهم، وأن كل مسلم يخالف ذلك ويذهب إلى الكنائس لتهنئتهم بأعيادهم الدينية «آثم»، ولا أريد أن أفتح معك بابا للجدل حول الضوابط الصارمة التى وضعها شيوخ آخرون للتهنئة وكأنهم يتحدثون عن فعل شديد الخطورة لم يعرف البشر شرا مثله من قبل..
أنا لا أناقشك فى إذا كان الذين قتلوا الأطفال والشيوخ والعجزة باسم الإسلام، أو هؤلاء الذين يرمون الناس بالكفر وعداوة الإسلام بسبب الخلاف السياسى، يستحقون دون غيرهم أن تبادرهم بالتحية والتهنئة فى الأعياد والمناسبات المختلفة لأن خانة الديانة فى بطاقتهم بها كلمة «مسلم»، بينما لا يستحق جارك أو زميل عملك أو شريكك فى الهم والغم ابتسامة أو تهنئة يوم عيده لأن بطاقته الشخصية تحمل ديانة غير ديانتك.. أنا لا أناقشك فى ذلك، لأن فطرتك السليمة تملك الإجابة.
أنا أتحدث عن هذه السرعة، وهذا الحرص على ظهور تلك الفتاوى على مواقع الشيوخ والفضائيات الدينية والفيس بوك والمنتديات السلفية، دون مراعاة للظرف الراهن الذى تعيشه مصر، ويعيشه الأخوة المسيحيون بعد حادث الخصوص وأحداث الكاتدرائية وكأن هناك إصراراً غريباً وعجيباً على ضرب كرسى فى «كلوب» حالة الحزن التى تعيشها مصر.
شوارع مصر عودتنا على أنها قادرة على جمع كل المتضادات، وغسل كل الخصومات فى أوقات الحزن والفرح، عودتنا على أن كل الخلافات تتنحى جانبا، وتتلاشى تماماً، حينما تقرر الفرحة أن تزور البيوت، وفى الأوقات التى تنال المصائب الكبيرة من هذا الوطن، اعتدنا أن نجد الكتف فى الكتف، لا أن يظهر أحدهم ليحدد لنا الطريقة التى يجب أن نشاطر بها إخواننا فى الوطن أحزانهم أو أفراحهم.
المشاعر الإنسانية تتضافر وتتضامن بالكلمات التى تأتى من القلب إلى اللسان مباشرة، وبالأحضان وبالدموع، ولا يمكنها أن تفهم السبب وراء منع تهنئة الأخ أو الجار المسيحى بأعياده أو أفراحهم كما لم تفهم من قبل فكرة تحريم الحديث عن رحمة الله بشخص متوفى مثلما حدث بعد وفاة البابا شنودة، الفطرة الإنسانية تعرف أن رحمة الله تسع كل شىء، وتعرف أن الرحمة بيد الخالق، يمنحها من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، وما على الإنسان إلا الطلب.. وأول مراتب الطلب هى أن تبتسم فى وجه الآخر وتحتضن أفراحه وأحزانه بغض النظر عن لونه أو جنسه أو دينه..
الرحمة التى تقول إنها شعار الإسلام، والود الذى تقول إنه عماده الأساسى، هى ألا تطلب منع الرحمة والفرحة عن قلوب أخرى، مهما كانت جنسيتها أو ملتها، فتلك ممتلكات الله، يجود بها على من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، لأنه هو سبحانه وتعالى الأعلم بما فى القلوب، وفى دواخل الأنفس.
الرحمة ياسيدى هى ألا تغرز سكين فتواك فى القلوب التى تشاركك حمل هموم الوطن والخوف من الانفلات الأمنى، والبكاء على حال الوطن، وتحتضنك إذا غدر بك أتوبيس النقل العام وأن تلاحقه خوفا من أن يفوتك موعد توقيع الحضور..
الرحمة التى تقول إنها شعار الإسلام ملخصها ألا تقرر أن تمنح نفسك حق تصنيف البشر إلى كفار لا يستحقون التنهئة ومشاركتهم الفرحة أو الدعاء لهم بالرحمة، وإلى أخيار مؤمنين الابتسام فى وجههم صدقة، فكما يقول الإمام محمد عبده فى الجزء الخامس من أعماله الكاملة: «إن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهى، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء والمدح بها، بلوك الألسنة والتشدق فى الكلام. بل شرعت للعمل.. وإنما سرى الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم بمن بُعث فيهم من الأنبياء لذاتهم، فهم بكرامتهم يدخلون الجنة، وينجون من العذاب، لا بأعمالهم، وإن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم فى أزمنة مضت، إن الإسلام أفضل الأديان، أى دين أصلح إصلاحه؟ أى دين أرشد إرشاده؟ أى شرع كشرعه فى كماله؟ ولو سُئل الواحد منهم ماذا فعل للإسلام، وبماذا يمتاز على غيره من الأديان، لا يجد جوابا».. فهل تملك بعد قول الإمام محمد عبده قولا؟ وهل تملك مزيدا من القسوة لتكسر بها تلك القلوب التى تشاطرك الحلوة والمرة فى وطن يؤمن أهله أن «جبر الخواطر» وسيلة من وسائل التقرب إلى الله عز وجل؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة