الأسعار نار وستزيد، الكهرباء مقطوعة وستزيد، الشوارع ملتهبة، والصحف لا شىء فيها يسر، حوادث وخناقات، «وحكومة فى وادى وشعب فى وادى تانى»، والشاشات لا تعرض إلا الهموم والاشتباكات بين حاكم وعشيرة ومعارضين وجبهة.. لا شىء فى مصر صار يبعث على التفاؤل على الأقل فى المستقبل القريب.. ورغم كل ذلك مطلوب منى ومنك أن نستمر فى الحياة فى هذا البلد ونحاول أن نعيش برغم الداء والأعداء وأن نحتفظ بعقولنا داخل رؤوسنا، وأن نعمل وننتج كل فى مجاله.. معادلة صعبة التحقيق ولكن لابد منها فلا مفر من أن تستمر الحياة.. وكثير منا يسأل كيف السبيل إلى ذلك؟!
أما أنا فقد وجدتها أو هكذا أظن، الزار هو الحل.. لا تتعجل وتنعتنى بصفات ليست منى مثل الجهل أو الترويج له أو للخرافة ولكن تمهل حتى أحكى لكم الحكاية وفى النهاية يحق لك ولكم الحكم أما قبل ذلك فستظلموننى وتظلمون أنفسكم بظلمى.
الله حى... الله حى... شيخ محضر... يا شيخ محضر.. اللى عليه عفريت يحضر.. تلك هى تصوراتنا وجزء من تاريخ الزار فى العقول أنه تجمع لنساء مهاويس بالجن يرون فى رقصهن على دقات الطبول علاجا للخلاص من الجن، عادة قديمة تكاد أن تندثر عرفتها بعض من أمهاتنا وجداتنا وأجيال وأجيال من قبل، وهاجمها رجال الدين وأحياناً بوليس الآداب كما حدث فى مصر عام 1956 حين قامت وزارة الشؤون الاجتماعية مع بوليس الآداب فى مصر بإجراء بحث دقيق عن الزار وكيف يكون وسيلة للتستر على انحرافات أخلاقية أو تعاطى مخدرات ورغم هذا فقد رأت الوزارة صعوبة إصدار قانون لاستئصال نظام متأصل فى حياة الناس وهو الزار.. إذاً الزار كان فى مصر طقسا من طقوس حياة الناس فى بعض الوقت. ولكن لنبدأ من البداية ما هو الزار وحكايته مع الناس وتطور أمره ثم خفوته حتى وصل بنا الحال لأن أظن أنه الحل لاستمرار حياة المصريين الآن فى عصر ما بعد الفيمتو ثانية.
البعض يرجع أصل كلمة الزار إلى كلمة الزيارة فى العربية وبعض البحوث الأخرى ترجعها إلى اللغة الأمهرية لغة أهل الحبشة وهى مشتقة من كلمة دجار djar كبير آلهة الكوشيين ولذا يرجع الكثيرون أصل هذا الطقس إلى الحبشة، وإن كانت بعض المراجع تؤكد أن عادة الزار ترجع للفراعنة، وبغض النظر عن أصل الكلمة أو موطنها فإن الزار قد انتشر إبان الحكم العثمانى فى العالم الإسلامى ويقال بأن سبب انتشاره أن ابنة أحد البشاوات أصيبت بمرض عضال وجاء علاجها عن طريق الزار فشفيت، فرفعت من شأن مقام صاحبات الزار فانتشرت هذه العادة.
وعلى مر التاريخ ثبت أن الزار ظاهرة ثقافية تختلف تفاصيلها من مجتمع لآخر، فنجد مثلا فى الجزائر يقال عن الزار الوعدة أو النشرة وفى المغرب هو الدردبة على موسيقى الكناوة أو الجناوة التى صارت لها شهرة عالمية ويقام لها مهرجان سنوى كل عام فى مدينة الصويرة المغربية وهى مزيج من الإرث الحضارى الإفريقى والبربرى والعربى، ومثلها كالاحتفالات الطقسية لدى الفودو فى البرازيل وبعض جزر أمريكا اللاتينية.. إذاً نحن أمام إرث ثقافى قد اتخذ أشكالا عدة وأسماء عدة أيضا وإضافات أو لمسات خاصة تختلف من دولة لأخرى.
وعودة إلى مصر والزار فيها الذى يكاد أن يندثر وتندثر الأجيال التى توارثت موسيقاه وأغنياته ولم يبق منهم إلا القليل الذى يعد على أصابع اليد الواحدة، ففى مكان بقلب القاهرة الهادرة تقف الكودية أم سامح وجوقتها المكونة من ثلاثة رجال منشدين وعازفين وثلاث نساء كذلك بين منشدات وضاربات على الدف يحيون الزار المنسى أمام جمهور ليس بالكثير وأغلبه شباب وبعض الأجانب الذين يقيمون فى مصر.
الأغنيات التى تتغنى بها الجوقة توارثوها عن آبائهم الذين توارثوها عن جدودهم ولكنهم للأسف لم يجدوا أبناء يورثونهم ما ورثوه فالزمن لم يعد بالنسبة للأبناء مناسبا لهذه المهنة والفن الذى اختفى.
جلست بين الحضور فى البداية أستمتع بالموسيقى وأهز رأسى كغيرى وأنا فى مكانى ولكنى قررت أن أتلبس روح جدتى التى أظنها بالتأكيد عاشت تجربة الزار مرات ومرات، فانتحيت جانباً وفى مكان مظلم ضيق وقفت وحدى أهز يدى وقدمى كما كنت أرى فى الأفلام قديماً وللعجب شعرت بأن كثيرا من الثقل بدأ يقع من على كتفى وما أكثره وحين انتهت الكودية ودقات الزار أزعم أنى لم أكن نفس حنان التى دخلت المكان، خرجت وأنا أخف حملاً وأهدأ بالاً حتى أن زحام الشوارع المثير عادة كان أقل حدة وهالنى هذا الشعور فهل كنت ملبوسة كما كان الأجداد يظنون وتم فك اللبس!!
حملت تساؤلى لصديق طبيب نفسى فأكد لى أن الطب الحديث اكتشف أن الرقص المصاحب لنغمات الزار يخلص الإنسان من التوتر العصبى ويعد علاجا حديثا للتطرف الشخصى والتوتر وكثير من أمراض العصر..!! إذاً وجدتها وجدتها هكذا صرت أصيح فالحل هو الزار. وحين عدت إلى بيتى جلست أمام التليفزيون فوجدت مواجهة بين أحد قيادات الإخوان المسلمين ومعارضيهم وكل منهم يصرخ فى الآخر تطرفاً، فانتقلت إلى محطة أخرى حتى لا أفسد بعض السكينة التى بقيت لدى لأجد جابر القرموطى يصرخ أمام الكاميرات فانتقلت إلى محطة ثانية فوجدت مشاهداً يستنجد بالله من الحكومة صارخاً، فضغطت على الريموت سريعاً لأجد الدكتور مرسى يلوح غاضباً جازا على أسنانة وسبابته تلوح فى وجهى.. فأغلقت التليفزيون وأنا على يقين بأن الحل فى مصر ولمصر وللمصريين هو الزار، فعليكم به من أول الرئيس للخفير ومن الإخوان لجبهة المعارضة ومن الشباب للكهول.. عله يُخرج من أجسادنا وعقولنا الجن الذى يتلبسنا بلغة أهل زمان أو التطرف والتوتر بلغة أهل العصر، وليكن نشيدنا القومى الله حى... الله حى... شيخ محضر يا شيخ محضر واللى عليه عفريت يحضر لعل فى الزار الخلاص... وخلاص!!!