أنت الآن أمام خبرين متعارضين، الأول يقول إن مرسى تعهد «بإرجاع» مثلث حلايب وشلاتين إلى السودان، قائل هذا التصريح هو مساعد الرئيس السودانى موسى محمد أحمد، ومكان نشر التصريح هو موقع الجزيرة نت، ومناسبته هى التعليق على زيارة الدكتور محمد مرسى إلى السودان، أما الخبر الآخر فهو نفى من المتحدث الرسمى باسم «مرسى» لهذا التعهد، جازما بأن حلايب وشلاتين أرض مصرية، وبأن حديث مرسى لم يتطرق إلى مثل هذه التعهدات، إذن فالخبران متعارضان بشدة، ويكاد ينفى أحدهما الآخر تماما، فى حين أن قائلى التصريحين على أعلى مستوى من التمثيل السياسى للبلدين، أحدهما مساعد البشير وهو رأس الحكم بالسودان، والآخر بدرجة سفير متحدث باسم «مرسى» وهنا يصل التخبط إلى أقصى مستوياته، وفى هذه الحالات لا ينبغى علينا أن نقف عند «الخبر» لنعرف صحة المعلومة، وإنما يجب أن ننظر إلى ما وراء الخبر محللين السياق والمرجعيات والدلائل علنا نصل إلى مرحلة «ما» من الإدراك.
أولا دعونا ننظر إلى «ناشر» هذا التصريح، وهو موقع قناة الجزيرة، ودعونا نتساءل: هل اشتكى مرسى أو الإخوان من هذا الموقع فيما سبق؟ الإجابة هى لا، إذن: هل انضمت قناة الجزيرة أو موقعها إلى قائمة القنوات والمواقع المعادية للإخوان أو ما يسمونه بـ«المشروع الإسلامى»؟ الإجابة أيضاً لا، إذن ما هو موقف «مرسى والإخوان» من قناة الجزيرة وموقعها؟ الإجابة: «سمن على عسل» حتى إن القيادى الإخوانى البارز المبرز «عصام العريان» خاطب الصحف والقنوات العالمية ذات يوم وقال لها: لا تنقلوا أخبارنا من المواقع والصحف المصرية وانقلوها من «الجزيرة» وهذا وحده يكفى لنعرف مدى ما تتمتع به مؤسسة «الجزيرة» من مصداقية عند الإخوان وقياداتهم، وهكذا نعرف أن شبهة «الكذب» أو التضليل أو التشويه مستبعدة فى هذا الخبر حتى بين «الإخوان» أنفسهم.
ثانيا دعونا ننظر إلى «أدبيات» جماعة الإخوان المسلمين لنعرف المرجعية التى ينطلق منها فكرهم وتصريحاتهم، مع الوضع فى الاعتبار أنه لا مفر من حفظ أدبيات الجماعة وأوامرها عند قادتها قبل أتباعها، وتشير إلينا أدبيات الجماعة إلى أن فكرة «الحدود الوطنية» غائبة عنهم تماما، فهم يتحركون وفق مرجعيات، وهم «الخلافة» التى لا تعرف معنى كلمة «حدود» وهو ما عبر عنه مرشدهم السابق «مهدى عاكف» فى حديث قديم حول قضية «حلايب وشلاتين» قائلاً: إن الجماعة لا تعترف بالحدود ولا ترى أهمية لتلك المنطقة لتأخذها مصر، كما أنه هو القائل: طظ فى مصر وأبو مصر واللى فى مصر، تعبيرا عن إلغاء الجماعة لفكرة الوطن فى مقابل فكرة «الخلافة» بمفهومها التقليدى وليس - حتى - بمفهومها الحديث الآن كما فى الاتحاد الأوربى الذى يحتفظ فيه مواطنو كل دولة بثقافاتهم وحريتهم وتقاليدهم وحدودهم بشكل صارم، دون أن يخل هذا بمبدأ الاتحاد فى المصالح والأسواق والعملات والأهداف والأحلام، وهو الأمر الذى يستحيل الآن فى ظل اختلاف المصالح وتباين الثقافات والهويات.
ثالثا إذا ما نظرنا إلى حالة التغاضى «المرساوى» عن أساسيات الأمن القومى المصرى وتفريطه الدائم فى حقوق مصر السيادية، سنجد أنه قد فعل أمورا تشكل علامات استفهام كبيرة لم نكن لنفهمها دون أن يظهر تصريح كتصريح مساعد الرئيس السودانى، والذى أوضح أن ترتيبات الأمن القومى تحتل مكانة متدنية عند الإخوان ورئيسهم، ومثال على ذلك ما أصدره «مرسى» من قرارات بالعفو عن 141 مجرما سودانيا فى 3 سبتمبر 2010 بعضهم مدان فى جرائم تتعلق بالأمن القومى المصرى، وكان ذلك بمناسبة زيارة الرئيس السودانى «عمر البشير» لمصر قبل أشهر، فجاء القرار 155 لسنة 2012 بالعفو عن مائة وعشرين مواطنا سودانيا، ولحقه بنفس اليوم القرار 157 لسنة 2012 بالعفو عن واحد وعشرين مواطنًا سودانيًّا، بعض هؤلاء السودانيين مدانون فى جرائم من الممكن أن نعتبرها جرائم «صغيرة» مثل الدخول إلى مصر بشكل غير شرعى أو الإقامة فى أماكن ممنوعة، لكن بعض هؤلاء المجرمين مدان فى جرائم كبيرة تتعلق بالأمن القومى المصرى وحقوق السيادة المصرية، مثل حيازة وإحراز أسلحة نارية وبنادق آلية وذخائر واستعمال القوة والعنف والوجود بمناطق عسكرية محظورة، فضلا عن حيازة أجهزة اتصال لاسلكى وأجهزة للبحث عن المعادن فى باطن الأرض، وكلها جرائم تمس عصب الأمن القومى المصرى، وفى مناطق حدودية يجب أن يسود الانضباط دخولها والتعامل فيها، أى أن تلك الجرائم التى ارتكبوها تؤكد أنهم كانوا جواسيس لجهة ما، وهو الأمر الذى أثرته سابقا فى مقال قديم بعنوان «رائحة كريهة فى قصر الرئاسة» نشر فى «اليوم السابع» فى 12 نوفمبر الماضى، ووقتها طلبت من «مرسى» أن توضح الأمر أو ترد على ما جاء بالمقال بشأن هذه القرارات الغامضة، وإلا فسيكون الرئيس مرسى قد حنث بقسمه وخان الأمانة التى حملها الشعب له، لكنه لم يرد ولم يوضح وكأن الأمر لا يعنيه.
بناء على ما سبق فإنى أصدق تماما أن مرسى وعد البشير بمثل هذا الوعد، فناشر الخبر مصدر «ثقة» بالنسبة للإخوان، كما أن أدبيات الجماعة لا تمانع مثل هذه الأمور، كما أن ممارسات مرسى السابقة تشير إلى أنه مستعد للتفريط فى سيادة مصر وأمنها القومى لأهدافه الخاصة التى لا يشغل باله بتوضيحها لنا، ولعل من الواجب هنا أن نشير إلى معلومة ربما يكون ذكرها هنا لافتاً، وهذه المعلومة تتلخص فى أن قضاة التحقيق فى قضية التمويل الأجنبى قد عثروا فى مكتب سام لحود، مدير المعهد الجمهورى الدولى الأمريكى بالقاهرة وابن وزير النقل الأمريكى، على خرائط لجمهورية مصر العربية لا تتضمن حلايب ولا شلاتين، كما أنها لا تتضمن جزءا من شمال سيناء، وهنا أود أن أذكر من نسى هذه القضية بأن قضاة التحقيق قد أصدروا وقتها قرارا بمنع سام لحود من السفر ثم تم تهريبه بأمر من المجلس العسكرى ورعاية إخوانية، وبعدها وجهت الإدارة الأمريكية الشكر للإخوان على تعاونهم فى هذه القضية وتغطيتهم السياسية على الأمر.
يتضح مما سبق أيضاً أن هناك استعدادا قائما من جانب جماعة الإخوان ورئيسها لعمل أى شىء من أجل إرضاء الحكومات «الإسلامية» فى الدول المجاورة، وعلى رأس هذه الحكومات: حكومتا «حماس» و«الخرطوم» بما يشير إلى أن الفكر الإخوانى لا يعمل على كسب ثقة «الداخل» وإنما يريد أن يكسب ثقة «الخارج» لماذا؟..
أجب أنت
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة