كان من أقرأ الناس لكتاب الله. بلغ به إتقانه وحفظه أن جلس ليعلم الناس أصول التلاوة، وأحكامها ودقائقها. ولطالما تحاكى الخلق عن ورعه وزهده وعبادته. إنه عبدالرحمن بن ملجم! قاتل سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه. وردت عدة روايات يتبين بمجموعها أن هذا الرجل حين أقدم على جريمته الشنعاء بقتل ابن عم رسول الله وزوج ابنته كان محتسبا تلك القتلة، لدرجة أنه حين اقتيد ليُقتص منه كان لا يشغله إلا أن يبقى لسانه يذكر الله ويتلو القرآن، وورد عند ابن سعد فى طبقاته والذهبى فى تاريخه أنه ما جزع إلا خوفا من أن يقطع لسانه، وقال: أكره أن أبقى فى الدنيا فواقا لا أذكر الله. تخيل.. هذا المجرم، القاتل، الخارجى، الظلوم، سافك دماء أمير المؤمنين على - بل قيل إنه ممن أفتوا أيضا بقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنهما - لا يشغله إلا أن يذكر الله قبل موته!!
قد يقف المرء طويلا متحيرا أمام هذا المشهد العجيب، وغيره من المواقف المشابهة حين يتلبس الباطل بثياب الحق ويتسربل بعباءته ظاهرا، لكن ربما تزول تلك الحيرة إذا أدرك المرء حقيقة «النظارة»!!
ولست أعنى بها واحدة من تلك النظارات التى نعرفها اليوم سواء الطبية منها أو الشمسية فهى بلا شك لم تكن قد اخترعت بعد، إنما أعنى تلك النظارة التى يرتديها المرء فتصبغ حياته ورؤيته وفهمه بلونها، فلا يرى الأشياء إلا من خلالها ولا يحكم على الأمور إلا بقتامتها التى تحجب عنه تفاصيل وحقائق واضحات بينات لكل من لم يرتدها، تماما كما حجبت نظارة التكفير عن عينى ابن ملجم كل فضيلة لسيدنا على، وجعلته عاجزا عن رؤية الكثير من الآيات والأحاديث التى تظهر من خلالها بشاعة فعلته. إنها تلك النظارة التى تتعاظم وتتضخم أحيانا لتتحول دون أن يشعر مرتديها إلى سجن كبير، لا يرى الدنيا إلا من خلال نافذته الضيقة التى يقبع أسيرا خلف قضبانها الباردة. وأسر الأفكار كثيرا ما يكون أشد إحكاما من أسر الأسوار، ولربما تكون قضبان الجهل والتأول أصلب ألف مرة من قضبان السجون. لكن سجين الفكرة ربما لا يدرك أبدا أنه سجين، بل قد يظل حبيسا خلف قضبان تلك الأفكار التى تتملكه، دون أن يدرك ربما لأعوام أنه كان ينظر إلى الدنيا من خلال نافذة زنزانة تلك الفكرة أو من خلف زجاج نظارتها المعتمة.
وهذا كان حال ابن ملجم وأمثاله فى كل عصر.. لقد نظروا إلى الحياة نظرة قاصرة، واعتقدوا اعتقادات باطلة ألبسها كبراؤهم ومضلوهم ثياب الشرع، وصبغوا إجرامهم بصبغتها، حتى تأولوا بها كل شىء وفعلوا تحت أستارها كل قبيح. وقد تملك بعض الأفكار والتصورات على المرء حياته، فلا يتصور العيش إلا من خلالها، ولا يمكنه التنفس إلا فى أعماقها، حتى إذا هبت عليه نفحة من نسيم نظيف، حبس أنفاسه خشية أن يختنق، كما فعل قوم نوح حينما وضعوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، بل كما فعل الضلال فى كل زمان ومكان حينما جاءتهم رسلهم بالبينات، فردوا أيديهم فى أفواههم، ورفضوا أن يفتحوا الأبواب والنوافذ ليدخل الضياء إلى القلوب والعقول.
وفى واقعنا المعاصر تجد ارتداء تلك النظارات الفكرية والأيديولوجية والحزبية فتغيب الحقيقة، ويموت الإنصاف، وتنتحر الموضوعية، فلا تدرى من أين تستقى خبرا، أو تستوثق من معلومة، أو تتفهم تحليلا. نفس الأحداث، ونفس الممارسات، ونفس المواقف تجدها فى رواية بصياغة، وفى رواية أخرى بصياغة مضادة تماما، وكل فريق يستعمل نفس الحالة أو الموقف فى نصرة فكرته، وزيادة درجة العتمة على زجاج النظارات الداكنة التى يسيطر بها على رؤية أتباعه ومريديه. ولو أن أحدهم أقدم وقرر يوما أن يخلع النظارة، ليرى الحياة بلونها الحقيقى، فسيدرك حينئذ الفارق الهائل بينها وبين وضوح الصورة ونقاوتها بدون النظارة التى لونت حياته دون أن يشعر، حين كان حبيسا خلف زجاجها القاتم، وقابعا بين أسوار سجنها الفكرى المظلم، الذى لم يفترض ولو للحظة أنه صواب يحتمل الخطأ، وأن غيره خطأ يحتمل الصواب. أو أنه قبل أن يعتقد ثم يلوى أعناق الأشياء ليدعم اعتقاده الذى كان عليه أن يستدل ويسترشد ويستهدى به. لكنه حين يفعل - إذا فعل - فسيعلم عندئذ أن مفتاح هذا السجن كان فى يده طوال الوقت دون أن يلاحظ، فقط كان عليه أن يمد يده ليخلع النظارة، أو أن يدير المزلاج الثقيل لتتفتح الأقفال، وتتحطم الأسوار، وليغمر النور ظلمات السجن الكئيبة. نور الحق بدون النظارة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة