كعادتى أقف كل فترة مع العبقرية الشعبية المصرية التى تلخص من خلال أمثالها وبكلمات قليلة العديد من المعانى العميقة التى قد تكل الأقلام والألسنة فى بيانها، من ذلك تشبيه المائعين المميعين ممن أدمنوا إمساك العصىِّ من المنتصف والتزلف لجميع الأطراف بالراقصين على السلالم فلا «اللى» فوق سمعوهم ولا «اللى» تحت شافوهم، والمثل رغم جرأته واستدعائه لتلك الفعلة الخليعة فإنه يلخص ببساطة حال كثير ممن نراهم اليوم فى مجتمعاتنا. فرغم فجاجة الفعلة فإنهم فى النهاية ولميوعة خيارهم لم يتمكنوا من لفت أنظار أى ممن حاولوا استرضاءهم بمنتصفيتهم اللزجة!
وهنا لن أستعمل اللفظ الذى يحرص عليه ذلك الصنف من مدمنى السلالم ليستروا به ميوعة قراراتهم الدائمة وضعف مواقفهم المستمر، ألا وهو لفظ الوسطية، والوسطية منهم بريئة، ذلك لأن ثمة فارقا بين المنتصفية وبين الوسطية ربما لا يلحظه كثير من أولئك المنتصفيون، هذا الفارق ليس لغويا بقدر كونه شرعيا، يتبينه من أمعن النظر فى الأدلة، وأدرك من خلال مجموعها أن الوسطية ليست دائما هى المعنى الظرفى المتبادر للأذهان، والذى هو المنتصف بين طرفين أو نقيضين، وإنما يأتى اللفظ فى القرآن كثيرا بمعنى الأعدل والأفضل والأكمل، من ذلك قوله تعالى فى شأن أصحاب الحديقة الذين منعوا حق الفقراء فيها: «قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون»، وأوسطهم هنا أى أعدلهم وأفضلهم، ومنه أيضا قول الله عن كفارة اليمين: «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ»، أى من أعدل وأفضل وأمثل ما تطعمون أهليكم، وليس كما يتصور البعض من عادىّ طعامهم ومتواضعه. وعلى ذلك تدور أقوال ابن عباس وابن عمر وابن جبير وعطاء وابن سيرين والحسن وغيرهم. أيضا جاء ذكر الوسط فى قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» وتفسير الوسطية بالعدالة والخيرية هو المتسق مع كون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ولقد فسّر نبينا معنى «أمة وسطاً» بالعدل، كما فى الحديث الصحيح بالبخارى وغيره، ويقول ابن كثير فى تفسيرها: واخترناكم لنجعلكم خيار الأمم، وقال القرطبى: «وليس من الوسط الذى بين شيئين فى شىء». وفى مختار الصحاح: والوسط من كل شىء أعدله.
فالوسطية هى الخيرية والعدالة والإنصاف والقصد، وليس شرطا أن تكون المنتصف كما يظن البعض، فيختار بين كل خيارين خيارا مائعا غالبا ما يكون بلا لون ولا رائحة، لمجرد أن يقال إنه توسط. والمنتصف أو الحياد ليس ممدوحا ولا مذموما بإطلاق، ولا تلازم بينه وبين التوسط أو الوسطية، فقد يكون الحياد فى لحظة ما خيارا صائبا، على ألا يكون منهجا دائما، يجعل صاحبه شخصا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ولا ينصر حقا ولا يبطل باطلا. ولئن صح أن تكون الشجاعة وسطاً بين الجبن والتهور فكم من متناقضات لا يُتصور أن يتم التوسط بينها، بل الحق والصواب يكون بانحياز المرء قطعا لأحدها، فلا توسط مثلا بين العدل والظلم ولا بين الصدق والكذب أو الإيمان والكفر وكلما تطرف تجاه كمال الصدق والعدل والإيمان فإنه يزداد بذلك خيرا وشرفا، لكن حين تشوش الرؤية ولا يستطيع الإنسان أن يميز بوضوح بين الصواب والخطأ، أو يقصر به فهمه ومعطياته عن إدراك خير الخيرين وشر الشرَّين خصوصا فى أحوال مختلطة لم تعد الخيارات فيها بالبساطة السابقة، فإنه من حق الإنسان فى تلك اللحظة أن يرفض تلك الخيارات المتاحة التى لم يجد نفسه فى أى منها ولا ينحاز إلى أحدها لحين ظهور البديل الأقرب والأصوب فى نظره، أو ربما يقوم هو بنفسه بطرح ذلك البديل يوما ما. وليست كل النزاعات هى بين حق خالص وباطل مطلق، بل قد يكون الأمر اجتهاديا، وتقصر بالمرء أدوات الاجتهاد والترجيح بينهما، فيختار الحياد الجزئى أو الوقتى تماما كما يختار السائق فى خضم الضباب الكثيف أن يقف على جانب الطريق لحين انقشاع طبقاته وتمكنه من الرؤية والسير من جديد. فى هذه الحالة لا يوصف بالتذبذب أو الميوعة مثل هذا الحريص على خطواته الرافض للوقوع فى المحظور، أو صاحب الرأى المختلف الذى لم يجد نفسه فى أى من الموجود، لكن أن يكون هذا حال الإنسان دوما، متعللا بأن هذه هى الوسطية أو التوسط أو الاستقلال، فهذا على الرغم من أنه أكثر راحة فإنه استسهال لا يفرق كثيرا عن نقيضه الذى يزعم أنه يرفضه، وهو الإمعة المتطرف فى انحيازه واتباعه الأعمى وما أولئك بوسطيين بل هم المنتصفيون المتميعون. وللحديث بقية بإذن الله..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة