مشكلة حكومات ما بعد الثورة «25 يناير» أنها تعمل فى الهواء الطلق، بلا «خارطة طريق» توضح معالم المستقبل، أو تقدم برامج محددة لمواجهة التحديات الصعبة التى تعيشها البلاد، وإذا لم تفعل الحكومة الجديدة ذلك فنحن ندور فى حلقة مفرغة، أزمات تتفاقم ومشاكل تتعقد وإحباط يتزايد، وكما رحل شفيق وعصام شرف والجنزورى بكثير من الإخفاق، سيرحل هشام قنديل لتبدأ رحلة البحث عن رئيس حكومة جديد، لاجتياز عنق الزجاجة وعبور النفق المظلم والوصول إلى بر الأمان.
«خارطة طريق» تجيب فيها الحكومة عن ثلاثة أسئلة: أين نحن الآن؟.. أين نريد أن نصل؟.. كيف نصل إلى هناك؟.. قوامها الصدق والمصداقية وليس الوعود والأحلام الوردية، فمن واجب الحكومة أن تصارح الناس بالحقائق لا أن تخدعهم بالتصريحات، وأن تبنى جسور الثقة ولا تهدم ما تبقى منها، فقد ارتفع سقف الطموح عاليا أكبر بكثير من الإمكانيات المتاحة، ولم تعد الأمانى حتى الآن ممكنة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وتساقط رؤساء حكومات الثورة بفعل رياح الغضب، شفيق طاردته لعنة الانتماء للنظام السابق، وعصام شرف اقتلعته عواصف التحرير بعد أن قطع وعداً بأن يحقق أهداف الثورة فى ثلاثة شهور وإلا عاد إلى التحرير، فلم يفعل هذا ولا ذاك، والجنزورى دهسته عربة البرلمان المنحل الذى ناصبه العداء منذ اليوم الأول.
«خارطة طريق» ترسم استراتيجية تحريك قطار الاستثمارات المعطل، وكانت مصر تجذب قرابة 11 مليار دولار، تضخ فى الشرايين مشروعات توظف العاطلين وتفتح المصانع وتبنى المدن وتستصلح الأراضى وتنعش الصادرات، ولن تنجح حكومة قنديل إلا إذا هيأت الأجواء لعودة المستثمرين العرب والأجانب، وأعادت لمصر الجدارة الائتمانية والثقة الدولية، وفعّلت قوانين الحماية وتقديم التسهيلات والضمانات الجاذبة، ولن يتحقق ذلك إلا إذا عادت الطمأنينة والثقة لرجال الأعمال والمستثمرين المصريين أولا، وأن تغلّب قوانين المصالحة فى اقتضاء حقوق الدولة، بدلا من الملاحقات القضائية وإشهار سيف الخوف والحبس.
«خارطة طريق» تقتحم ألغام الدعم دون أن تنفجر فى الفقراء ومحدودى الدخل، وأن تأخذ هذه الخطة فرصتها من الحوار المجتمعى ليكون الناس شركاء فى قراراتها المصيرية، بدلا من قرارات نص الليل المفاجئة بفرض الضرائب والرسوم، والأحاديث الغامضة عن رفع الدعم عن المنتجات البترولية والسلع الأساسية، ثم الرجوع عنها تجنبا للغضب والاحتجاجات، فالدعم موروث ثقيل لا يمكن التخلص منه بين يوم وليلة، ووقف نزيفه يتطلب جراحا ماهرا لا ينحرف مشرطه بعيداً عن الأورام، وإذا نجحت حكومة قنديل فى ذلك دون اضطرابات اجتماعية، فسوف تقطع نصف الطريق إلى الانتعاش الاقتصادى والاجتماعى والسياسى.
«خارطة طريق» تحمى البلاد من الفساد السياسى والاقتصادى وتمنع الزواج المشبوه بين الثروة والسلطة، فحتى الآن لم يصدر قانون تعارض المصالح، بما يعنى أن الباب مازال مفتوحًا على مصراعيه لإعادة إنتاج فاسدين جدد، وبما يعنى أن عوائد التنمية ستظل حكراً على فئة بعينها، وأن الرأسمالية المتوحشة استبدلت فقط ثيابها، وأن العدالة الاجتماعية مازالت عبارات فارغة يزين بها كبار المسؤولين خطبهم وتصريحاتهم، وأن الأثرياء يسيرون على هدى بيت الشعر الإجرامى «إذا قابلك الأعمى فاخطف عشاه.. فلست أحن عليه ممن عماه».. مشكلة حكومات ما بعد الثورة «1952» أنها خدعت المصريين على مدى ستين عاما، بأسطوانة المخاطر التى تحيط بالبلاد بسبب المؤامرات الداخلية والخارجية، وأنها تبذل قصارى جهدها لعبور عنق الزجاجة، حتى أصبحت مصر محشورة فى عنق بلا زجاجة، عنق حاولت ثورة 25 يناير أن تحطمه، ولكن يبدو أنها انحشرت هى الأخرى فيه.