كاريزما أردوغان المتجاوزة للمؤسسات فى تركيا عليها أن تتواضع الآن وتعرف أن الشرق الأوسط تغير بعد الربيع العربى، نمط الاحتجاج الأساسى فى العالم صار يعبر عما يعرف باسم السياسة من أسفل، الجماهير فى الشارع من الشباب والقوى الاجتماعية المنحازة للعدل الاجتماعى ولمشاركة أوسع للجماهير لا تريد أن تعطى شيكا على بياض لزعيم سياسى، أيا كان، مهما كانت إنجازاته، لذا الاحتجاج التركى فى ميدان تقسيم هو تعبير فى جوهره الأساسى عن نمط السياسات الاحتجاجية الجديدة فى الشرق الأوسط والعالم كله، وهى رفض كاريزما الزعماء وفتح الباب واسعا لسياسة الجماهير والشباب الذين يملكون اليوم أحد أهم القوى المؤثرة فى السياسة، وهى الفيس بوك وتويتر وشبكات التواصل الاجتماعى والميديا الجديدة، ذلك لا يعنى وكما أكدت من قبل أن تركيا تواجه ربيعا عربيا، وإنما تركيا من خلال الاحتجاج فى تقسيم تريد أن تهذب النموذج التركى لكى يكون أكثر ديمقراطية واستماعا لمعارضيه، خاصة أن أردوغان أصبح هو الشخصية الأهم فى التاريخ التركى اليوم، وهو المعادل الموضوعى لكمال أتاتورك، ومن ثم فعليه أن يتواضع، السياسة الحديثة لم تعد تقبل الكاريزما المهيمنة، وإنما تقبل ما أطلق عليه الكاريزما المتواضعة التى تؤثر وتقود، ولكن مع الاستماع للقوى الاجتماعية والسياسية الجديدة، وخاصة الشباب الذى يحمل عادة حلم التغيير لبلاده وصوت الانحياز للفقراء والمهمشين والمستضعفين.
لم يعد مقبولا فى الشرق الأوسط أن تواجه أجهزة الأمن متظاهرين بالقمع، وتبرر ذلك بأن هناك ضرورات دفعتها لذلك، يبدو أردوغان وحزبه لأول مرة فى مأزق منذ مجيئه إلى السلطة عام 2002، وهذا ما دفع بولنت أرينج القائم بأعمال الحكومة فى ظل وجود رئيس الوزراء فى جولة خارجية إلى أن يعتذر للمتظاهرين وينفى وجود أى مشاريع للحكومة فى ميدان تقسيم، ويصرح أن رسالة المتظاهرين وصلت، وكان يدعمه فى ذلك رئيس الجمهورية عبدالله جول.
لا تزال الديمقراطية التركية ونموذجها الاقتصادى تتعلم من أخطائها، وهو ما يعنى مكسبا لإقليم الشرق الأوسط وللديمقراطيات الناشئة فى بلدان الربيع العربى، النموذج التركى لا يعنى أنه نموذج مكتمل كشأن التجارب الإنسانية، ولكنه يعنى أنه نموذج متطور، كما لا يعنى أنه نموذج بلا مشاكل، كشأن التجارب الإنسانية جمعاء، ولكنه يستطيع أن يتعلم من الأخطاء. الخبرة الأساسية التى يقدمها حال الشرق الأوسط هى أنه لا توجد تجارب إنسانية بلا مشكلات، ولا توجد خبرات بلا تواضع واستماع لصوت الشارع والناس، لن تعطى الشعوب شيكا على بياض لقادتها مهما كانت إنجازاتهم، وهذا هو التحدى الرئيسى الذى يواجهه النموذج التركى، وهو يتعلم منه، فزملاء أردوغان يتعاطفون مع مطالب الشعب لأن هناك انتخابات قادمة، وعلى الحزب أن يتحاور ويستمع لصوت المحتجين. علينا أن نرحب بتطور وتهذيب الديمقراطية التركية فى عالمنا العربى بعيدا عن التوظيف السياسى بين تيارات الإسلاميين والعلمانيين، ففى تركيا نموذج حقيقى يتشكل ويطور نفسه، وفى ذلك نفع كبير للنموذج التركى الذى لم يعد ملك نفسه، وإنما هو ملك لآخرين يتابعونه فى العالم العربى. نجاح النموذج التركى هو مكسب لنا جميعا فى مصر وتونس والعالم العربى، فالنماذج القادمة كلها عليها ألا تستريح لإنجازاتها، أو تستريح لكاريزما قادتها، فصوت الشعب دائما يأتى ليوقظها وعليها أن تستمع له.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة