فى تلك اللحظات يرقد نيلسون مانديلا ذلك المناضل السياسى والزعيم الأفريقى الكبير فى أحد مستشفيات جنوب أفريقيا للعلاج من الالتهاب الرئوى، والعالم يصلى من أجل شفائه.. فهو أحد الفرسان النبلاء، وآخر الزعماء الحقيقيين المناضلين فى أفريقيا بعد جيل العظماء أمثال عبد الناصر ونكروما وسيكوتورى.. مانديلا- 95 عاماً- يتذكره العالم فى حياته قبل مماته، لأنه من نوعية المناضلين الذين قدموا عمرهم وحريتهم فداء لأوطانهم، فقد أفنى زهرة شبابه فى السجن من أجل بلاده ومن أجل القضاء على العنصرية البغيضة فيها بعد سنوات طويلة من الذل والهوان التى عاشتها جنوب أفريقيا.
كان من الممكن أن يخرج مانديلا من السجن حاقداً وحانقاً ليس على البيض حكام البلاد، وإنما على المجتمع ككل بعد أن قضى نحو ربع قرن بين جدران السجن، ولكنه استعان بنضاله وكفاحه وإيمانه بحرية وطنه ومقاومته للتمييز العنصرى على غواية نفسه، فانتصر فى النهاية وخرج من السجن فى فبراير 90 كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا مستلهما من الإسلام موقف رسوله العظيم، عليه الصلاة والسلام، عند فتح مكة عندما أصدر عفوا كريما عن أهلها الذين أخرجوه وطاردوه، بالمقولة التاريخية «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
يذكر مانديلا فى مذكراته، أن أكبر تحدٍّ واجهه عقب خروجه من السجن وتوليه السلطة «هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق» لكنه وقف دون ذلك «.. وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد، لذلك شكل مانديلا «لجنة الحقيقة والمصالحة» التى جلس فيها المعتدى والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر».
التسامح والمصارحة والمصالحة كانت كلمة السر والسياسة العبقرية البسيطة فى نهضة جنوب أفريقيا وتقدمها بقيادة الزعيم مانديلا، وعندما ترجل عن الحكم واختارته الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة، رأى أن سر نجاح ثورات الربيع العربى خاصة فى مصر وتونس يكمن فى المصالحة الشاملة فى المجتمع دون انتقام أو حقد أو عزل وتشريد وطرد، وخاطب الثوار والحكام الجدد فى مصر وتونس بأن يرسلوا «رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى بأن لا خوف على مستقبلهم فى ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير». «طمئنوا المجتمع أن لا خوف فى ظل الديمقراطية والثورة.. استحضروا قولة نبيكم (اذهبوا فأنتم الطلقاء)».
يقول مانديلا فى مذكراته: «تخيلوا أننا فى جنوب أفريقيا، ركزنا– كما تمنى الكثيرون- على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟.. لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب أفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنسانى اليوم».
للاسف لم يتعلم الثوار فى مصر ومن بعدهم الإخوان من دروس مانديلا وخبرته وتجاربه وممارسته للحكم على أرض الواقع وحكمته السياسية فى التسامح والتصارح والتصالح مع خصومه ومع النظام الأبيض العنصرى، وسيطر «الغباء السياسى» و«الحماقة» على الأداء السياسى للإخوان وأتباعهم الذى سيؤدى بهم إلى الزوال والاندثار فى نهاية الأمر.
مانديلا، أيها المناضل العظيم، لم يتعلم منك الجهلاء والحمقى وأنت فى فراش الموت، لذلك سوف تبقى حيا خالدا وسوف يموتون ويتوارون وهم أحياء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة