نيلسون مانديلا الذى يرقد قرب خط النهاية، فى الخامسة والتسعين من عمره، يظل تجربة مجانية فى الثورة والمقاومة والديمقراطية، أكثر من أحياء.. الرجل الذى قضى أكثر من ربع عمره فى السجن – 29 عاما - رفض التنازل عن «إنهاء العنصرية»، ثم خرج ولم يطالب أحدا بأن يدفع له ثمن سنوات السجن.. لم يطلب من شعبه أن يصلب ويموت فداء له، ورأى أن الثمن الذى دفعه عادل مقابل حرية شعبه.
نيلسون مانديلا الذى أسقط أخطر الأنظمة العنصرية، يؤكد أن إقامة العدل أصعب من هدم الظلم، وأن بناء الدولة بعد التحرر أصعب من إسقاط النظام الظالم، وأن البناء يحتاج إلى الجميع، ولايمكن بناء الدولة بأيدى فصيل أو قبيلة أو لون أو عرق، بل الكل.
مانديلا يرى أن النظر إلى المستقبل بواقعية أهم من الوقوف عند تفاصيل الماضى. ولهذا عارض مطالب السود بالتفرغ للانتقام، «وكان الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية». «تحول لهفى على حرية قومى إلى لهف على حرية كل الناس، البيض منهم والسود. كنت أعلم أن حاجة الظالم إلى الحرية، أمس من حاجة المظلوم، فالذى يسلب إنسانا حريته، يصير هو نفسه أسيرا للكراهية والحقد، يعيش وراء قضبان التعصب وضيق الأفق.. إن الظلم يسلب كلا من الظالم والمظلوم حريته».
وفى انتخابات الرئاسة عام 94 صوت الشعب لرمز حريته، وكان طبيعيا أن يكتسح، لم يجلس فوق رأس شعبه، وعندما جاء أوان رحيله عن الحكم، سلم السلطة فى بلاده. عاش مختارا كمواطن، يدافع عن الحرية، لم ير أنه الأحق بالبقاء، ولم يصر على أنه الصواب.
ومازال وهو فى الخامسة والتسعين يقدم دروسا للحكام الذين ضربت الشيخوخة قلوبهم وعقولهم.
فى التسعين أجرت معه مجلة التايم حديثا عن أهم دروسه فى القيادة، أهمها كان «إن الشجاعة لا تعنى إنعدام الخوف … إنما تعنى تشجيع الآخرين لتجاوز الخوف» و«احرص على وجود أنصارك بقربك، ومنافسيك أقرب إليك»، لم يستبعد أو يسحق منافسيه بل رآهم شركاء. أما أهم دروسه فهو أنه «لا يوجد فى السياسة إما- أو» فالحياة أعقد من أن تأخذ حلا واحدا، فلا شىء اسمه الحل الوحيد، بل خليط من الحلول تصنع معا حلا صحيحاً، أما أهم دروسه فهو أن «التراجع وقت الخطأ من صفات القائد، ويعترف أنه تراجع واعتذر عن قرارات أثبت الواقع خطأها».
هذا هو مانديلا الذى دفع ثمنا غاليا لحرية بلاده، ولم يسع لحصد كل ثمار ثورته. واجه نظاما عنصريا، وحكم بلدا يزدحم بالأعراق والألوان، والأحقاد، نجح إلى درجة كبيرة، لكننا بعد التخلص من نظام ظالم مازلنا نرى من بيننا من يصر على ممارسة الظلم والتمييز. مانديلا حرر شعبه، ليس فقط من العنصرية، ولكن من الكراهية.
أما نحن بالرغم من أننا شعب متجانس، عانى أغلبيته من الظلم والتفرقة، نرى من يسعى لشق صفوفه وتقسيمه، إلى مسلم ومسيحى، سنى وشيعى، نوبى وسيناوى، ومن يخترع الكراهية بكل أشكالها. ولا يزال مانديلا الراقد فى الخامسة والتسعين يقدم دروسا فى السياسة والتسامح والحرية، لحكام من عينة «زعبلة».