يواجه حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا لأول مرة مظاهرات حاشدة تطالب برحيل رئيس الوزراء والحكومة، وتقول إنها ضد ديكتاتورية أردوغان، المسألة بدأت بمشروع لتطوير ميدان تقسيم وإزالة حديقة لكى يقام مكانها منشأة عثمانية قديمة ومركز ثقافى وتجارى، البعد الرمزى الذى يشير إليه ميدان تقسيم هنا مهم، فهو رمز علمانى كانت القوى العلمانية تتجمع فيه للتعبير عن مطالبها، وحين يقول أردوغان إن ميدان تقسيم لن نتركه للمتطرفين المستهترين فإنه يعبر هنا عن نزعة حزبه المحافظة التى ترفض السلوك الحر الذى يصل لحد تحدى التقاليد المحافظة للمجتمع التركى. أى أن المعركة حول تقسيم وما يجرى فيه هى تعبير عن تنازع بين الاتجاه المحافظ الذى يعبر عنه حزب العدالة والتنمية وهو حزب يعرف نفسه بأنه ديمقراطى محافظ – أى أنه ضد تيارات علمانية تتبنى الطابع الليبرالى المبالغ فيه للسلوك والذى يعنى شرب الخمر علناً، ومعانقة الفتيات علنا وربما أكثر من ذلك أيضاً، بالإضافة إلى أن هناك قطاعات من المثليين ومن المتأثرين بالتيارات الغربية المتطرفة فى جنوحها نحو الحرية الفردية، وقطاعات من العلويين وهم طائفة تعبر عن أقلية دينية فى تركيا وتريد أن يتم الاعتراف بها كطائفة مستقلة بينما يعتبرهم الأتراك جزءا من عموم مسلمى تركيا، وخلف هؤلاء جميعاً يقف حزب الشعب العلمانى الكمالى داعماً لأنه يلتقى مع هذه القوى الاجتماعية والسياسية غير المحافظة فى منطلقاتها ذات الطابع العلمانى وفى نفس الوقت يستغل الأحداث سياسياً لإحراج الحزب الحاكم.
المشاهد التى بثتها الوكالات للمتظاهرين أعادت للأذهان مشاهد الربيع العربى فى وجه الطغاة والمستبدين، وهو ما أعاد للأذهان الحديث عن ربيع تركى، وفى الواقع فإن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى فجرت الربيع العربى غير موجودة فى تركيا، بمعنى أن هناك اقتصادا جيدا فى تركيا، وهناك مستوى معيشة معقول، وهناك مستوى عام من هيبة الدولة واحترام القانون والالتزام به بشكل صارم، وهناك مستوى للتعليم لا بأس به، وهناك شعب محافظ لا يميل بطبيعته للتمرد أوالثورة فى مواجهة حكومته، ومن ثم فإن الحديث عن الربيع التركى هو نوع من المزايدة. لا يعنى قولنا إن الوضع الاقتصادى فى تركيا جيد ولا توجد مشاكل متصلة بالبطالة، أو لا توجد انتقادات للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لحزب العدالة والتنمية الحاكم والتى تميل – كما يقول منتقدوها إلى الفئات الأكثر غنى والشركات الرأسمالية الكبرى أكثر من ميلها للفقراء والمهمشين والموظفين والشباب، ومن ثم فإن الفئات التى خرجت لتحدى أردوغان لديها مطالب متصلة بالتوزيع العادل للثروة وفى نفس الوقت بالحرية الفردية حيث أسست العلمانية لثقافة سياسية تميل للفردانية والحرية على النمط الغربى. علينا ألا ننسى أن السياسة الخارجية التركية تواجه مأزقاً فيما يتصل بالموقف من سوريا، وهو ما يجعل خطاب أردوغان أكثر محافظة، فهو مثلاً فى هذا الشهر دعا فى خطاب له لمواجهة بشار ووقف مذابحه من خلال الجهاد، وهو ما يثير ربما تخوفاً لدى الفئات التى ثارت فى مواجهته بميدان تقسيم وهى فئات الأقليات العلوية والكردية والمهمشين من المثليين والمطالبين بعلاقات حرة بلا قيود. ما يجرى فى تركيا ليس ربيعاً عربياً، ولكنه الوجه الجديد لعالم السياسة الجديد فى الشرق الأوسط.. لا نريد كارزيما وقيادات تتجاوز الشعب والمؤسسات وهكذا يفعل أردوغان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة