لا أجد وصفا لما يحدث فى شوارع مصر من ثورة عارمة سوى أن ما يحدث الآن هو ثورة وعى فى المقام الأول، فقد وعى الشعب ما يحاك ضده من اغتيال ممنهج للهوية المصرية الراسخة، ووعى أيضا مدى ما تتمتع به الجماعة من استبداد، وبلادة لا تحسد عليها، ووعى مدى الكذب الراسخ فى بطون اللحى الخربة، ووعى أن الدين أكبر من اختزاله فى جماعة أو فئة، ووعى مقدار فراغ عقول الجماعة إلا من مصالحها، ووعى خواء ما يسمى بالمشروع الإسلامى الذى لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، ووعى أن من يتشدقون بالدين لا يمتّون للدين بصلة، ووعى أن أمنه القومى فى خطر، وأن اقتصاده فى خطر، وأن حدوده فى خطر، وأن مصالحه فى خطر، وأن سيادته فى خطر، وأن مستقبله فى خطر، وثقافته فى خطر، وتاريخه فى خطر. وما انتفاض الشعب المصرى العبقرى بهذه الطريقة المبهرة سوى انعكاس لما بداخله من ثورة عارمة، وجد أن الطرق السلمية هى أنسب الطرق للتعبير عنها. وأخشى أن يفقد الشعب إيمانه بالسلمية بعد أن رأى تجبر الجماعة وتكبرها واستعلاءها، ووقتها لن ينفع الجماعة احتماء بالخارج، ولن يقيها غضبة الشعب تشدقا بالآيات المنزوعة من السياق، والأحاديث التى يوظفونها فى غير محلها.
هى ثورة ثقافية من الطراز الأول، فقد آمن الشعب الآن بما كان يردده المثقفون، وعرفوا أن تحذيرات أهل الفكر والدراية لم تكن نابعة من فراغ، إنما كانت بناء على استقراء للماضى، ورؤية للحاضر، واستشراف للمستقبل. وعلى النقيض تماما جاء خطاب الدكتور محمد مرسى أمس الأول، فقد ظهر غائبا عن الوعى، تائها بين التفاصيل، غير مدرك لحال الشارع المصرى الرافض له ولحكم مرشده، غائبا عن الوعى تماما، يتحدث عن أزمة تعيينه للنائب العام الملاكى وإمكانية تغييره، غير مدرك أن النائب العام ترك منصبه فعلا بمقتضى حكم قضائى نهائى من محكمة النقض، وأن نائبه الملاكى طلب الرجوع إلى منصة القضاء، كما تحدث عن مبادرة جديدة للم الشمل، فأعاد طرح المبادرة التى طرحها سابقا فى خطابه يوم الأربعاء الماضى.. تكلم عن حرمة الدم المصرى، وقداسته، وحرض جماعته على العنف والدماء، قائلا إنه يفتدى ما يسميه كذبا بـ«الشرعية» بدمه وحياته، وهى الجملة التى كانت إيذانا بسيل الدم فى شوارع مصر عقب إلقائه خطابه بدقائق.
بخلاف الأمور غير المنطقية التى قالها «مرسى» فى خطابه، ظهر مدى ما يتمتع به من غياب للوعى فعليا فى الكثير من ثنايا حديثه، فقد كان يقول الكلمة ثم ينسى أنه قالها فيقولها ثانية، وينسى أنه قالها ثانية فيقولها ثالثة، حتى أنه ردد العديد من الكلمات عشرات المرات، مثلما يهذى المرضى تحت تأثير المخدر، ولو أردت اختصار خطابه الذى ألقاه فى خمسين دقيقة فى خمس دقائق لاستطعت بمنتهى البساطة، فكل ما قاله هو أن النظام السابق يريد أن ينقض على الحكم ليعيد الفساد، وأنه متمسك بشرعيته إلى آخر المطاف، ولا أدرى كيف استطاع أن يقول هاتين الجملتين فى خمسين دقيقة دون أن يشعر، وهو الأمر الذى يضعنا فى مفارقة تاريخية عجيبة. ففى الوقت الذى يعيش فيه شعب مصر أعلى موجات الوعى والإدراك يظهر ذلك الذى يسمونه رئيسا دون أدنى وعى أو إدراك، وهو الأمر الذى يضع الإخوان وحكمهم خارج التاريخ إلى الأبد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة