من الأخبار التى كثر ذكرها فى كتب السير وأخبار الأولين ما رُوى عن حال العرب فى الجاهلية حين كانوا أحيانًا لشدة تعظيمهم لآلهتهم يصنعون لها أصنامًا من عجوة- وذلك لارتفاع قيمة العجوة لديهم وغلو ثمنها ويعدون ذلك تبجيلاً لها وقربانًا- فكانوا يعبدونها نهارًا حتى إذا قرص الجوع أمعاءهم صبَّروا أنفسهم بقضمات من تلكم الآلهة المزعومة والتى كانوا منذ برهة يعظمونها، إلا أن تعظيمهم لها لم يواز تعظيمهم لشهواتهم وأهوائهم ولم يقف حائلاً بينهم وبين التهامها عندما جاعوا. من هنا تعود الأدباء والكتاب على استعمال هذا التشبيه كلما أرادوا أن يعبروا عن حال أصحاب مبدأ اللامبدأ من أولئك الذين يتنازلون عن قيمهم وأصولهم وثوابتهم عند المحكات ولدى أول تقاطع أو تعارض لتلك المبادئ مع مصالحهم وأهوائهم، ويظهر آكلو العجوة كثيرًا فى أيام الزخم والمتغيرات العنيفة وانتقال مراكز الثقل والقوة فتراهم يميلون مع كل ريح وينحنون لكل موجة ويسارعون إلى مبادئهم ليلتهموها غير آسفين ولا مستحين.
ثلاثة أصناف رئيسية من آكلى العجوة تظهر بكثافة فى الأيام الحاسمة والمؤثرة من تاريخ الشعوب والأمم، ومنها بلا شك تلك الأيام التى نمر بها، أولهم: أولئك القافزون من السفينة حين يشعرون بغرقها، ورغم أنهم ركبوها من قبل باختيارهم والسعادة والغبطة تتقافز من تصريحاتهم وتظهر على موالاتهم وتأييدهم وأحيانًا تطبيلهم فإنهم فجأة تتلبسهم الثورية والمعارضة ويتقمصون دورًا طالما انتقدونا حينما كنا نمارسه بينما كانوا منشغلين بغنائمهم ومناصبهم، ولو كانوا من أصحاب المبادىء حقا- كما هو المظهر الذى يحلو لهم عند قفزهم أن يظهروا به- لكانوا من البداية لم يقبلوا بركوب تلك السفينة أو على الأقل لكانوا غادروا مرفوعى الرأس بينما المركب يسير فى أمان حينئذ ربما كانوا ليُصَدَّقوا ويقال عنهم من أصحاب المواقف، أما حين الأزمات فعذرًا ما هم إلا آكلو مبادئ.
الصنف الثانى: هم أولئك المتلونون الذين يسارعون ويبيعون ثوابتهم وشعاراتهم لمن يمتلك القوة أو لمن يدفع أكثر، فتجدهم يتقلبون من حال إلى حال ومن موالاة صاحب منصب إلى التزلف لصاحب مال، ويقبلون ما كانوا يرفضونه من قبل ويطبلون لمن ثاروا عليه بالأمس مستعيرين نفسية ميكافيللى، ومعلنين أن وسائلهم الحقيرة تبررها غاياتهم المريضة حتى وإن وطئوا فى طريقهم كل ما تغنوا به يومًا ما من مبادىء وقيم وشعارات كانت على ما يبدو جوفاء.
مازلت أصر على أن هؤلاء اللامبدئيين وآكلى العجوة مهما علا صوتهم وازدادت وقاحتهم لا يمثلون إلا أنفسهم وأن الشرفاء لا يزالون موجودين لا يرضيهم أن تُهان مبادئهم بهذا الشكل المؤسف وأن تُعامل على أنها مجرد صنم عجوة يُلتهم حين يشتهيه المدعون، أحترم تمامًا من خالف وعارض لمبدأ ومن صدع بما يدين لله أنه الحق حين قل الصادعون وكثر المطبلون والمنتفعون فلم ينظر لمغنم وتحمل دومًا المغرم، وأحترم أيضًا من ثبت على موقفه حتى وإن اختلفت معه يومًا لكن يكفينى أنه لم يتلون ويتقافز على أنغام المصالح أو يتراقص على إيقاع المطامع، وأحترم جدًّا من لم يضع على عينيه نظارة الكراهية السوداء لتعمى بصره عن رؤية ثوابته وقيمه التى طالما نادى بها والتى ينبغى أن تظل راسخة مهما كانت مآلات الأحداث، هؤلاء من أحترمهم وأسأل الله أن أكون منهم وأن أموت على مذهبهم لا على مذهب آكلى المبادئ و«العجوة».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة