عند الأحداث المفصلية الهائلة والمؤلمة تبرز إلى السطح حالة من الإنكار اللاإرادى تجعل الإنسان يستطيع التكيف مع بقايا وازع أو ضمير يقبع فى أعماق نفسه قد يرفض تلك الأحداث، هذه الحالة من الإنكار تدفع بالإنسان إلى طريق من اختلاق الأوهام أو قبول الحجج والمبررات الواهية التى تنسج فى خياله واقعا بديلا يستطيع التعايش معه، لو لم يفعل الإنسان ذلك لحدثت مواجهة عنيفة بين نفسه وواقعه الحقيقى قد تؤدى إلى صدمة تؤثر على طريقة تقبله لفكرة الحياة نفسها لذلك يعد هذا الإنكار المبدئى من وسائل الدفاع النفسية التى تؤهل المرء تدريجيا لتقبل واقعه الجديد.
كان لابد من تلك المقدمة لأستطيع أن أقرب إلى ذهنك عزيزى القارئ تفسير تلك الحالة من استرخاص الدماء التى تراق فى مصرنا.. نعم هى حالة إنكار جماعية واضحة، وبما أن لون الدماء شديد الوضوح لدرجة يصعب معها إنكار إراقته فإن الجموع قد لجأت إلى ما ذكرته آنفا من نسج واقع بديل أو قبول وشراء تلك الرتوش التى تجمل الواقع وتجعله محتملا، ألم تر مقاطع إمساك فلان وفلان بالسلاح؟ ألم تسمع تهديد فلان واعتراف علان ووعيد ترتان؟ ألا تسمع عما يحدث فى سيناء؟ إذن فهم جميعا إرهابيون يستحقون الإبادة بذلك يرتاح الضمير - إن وُجد - ويطمئن البال لفكرة السلة الواحدة ولا تؤرقه تلك الدماء المراقة، إن كان قد رآها أصلا فإن قلت وما ذنب الأبرياء؟ ولماذا يعمم العقاب؟ ولماذا لا يطبق القانون على من يبت أنه ارتكب جريمة أو حرض على جريمة؟ وهل تحتاج الدولة إلى تفويضات لتطبيق العدالة؟ لو قلت هذا أو بعضه لصُدِّرت التهمة فى وجهك فورا ولصرت أنت أيضا مدافعا عن الإرهاب بل ربما صرت إرهابيا مكتمل الأركان ولم تعد من المواطنين الشرفاء الذين اختصهم وزير الدفاع بهذا الوصف لأنهم يؤيدونه ويطيعونه، فالتهمة جاهزة والمقصلة الفكرية منصوبة، وليس أمامك إلا أن تسير فى ركب التهليل والتصفيق لكل ما يحدث، وإن كان لديك بقايا ضمير يتأذى بتلك المشاهد المروعة التى لم تكن تتصورها يوما فى بلدك الحبيب فحينئذ ليس لديك إلا الحل الأول، الإنكار.. الإنكار وليس حتى الاستنكار.
وقائمة المسكنات والمهدئات الضميرية جاهزة أمامك، فاختر منها ما شئت، فأمامك مسكن التعميم الشامل واستدعاء مشاهد التجاوزات والتصريحات المتطرفة من البعض لتبرر بها قتل الكل ممن يشبهونهم فى الخيار السياسى أو حتى فى المظهر، أو إن شئت فتناول مهدئ المؤامرة الكونية وأقنع نفسك بأن الإخوان يقتلون أنفسهم وأبناءهم بأيديهم وأن الجيش يقتل أبناءه فى سيناء، وإن أردت يمكنك الاستعانة بالأدوية التاريخية التى تستدعى مواقف سابقة لخصمك تراه قد «استندل» فيها معك لتبرر بها نذالتك معه وتنسيك أن الواصل ليس بالمكافئ، وأن الحق ومواقفه تقوم بذاتها وليست تقوم كرد فعل لمواقف أخرى أو كأجر فى مقابلها وتنسيك أيضا أن كثيرا ممن تراق دماؤهم اليوم لم يرتضوا بالأمس تلك المواقف السابقة لأشباههم وكانوا إلى جوارك فيها، يمكنك أيضا الاستعانة ببرشام التكفير وحقن التخوين والتفسيق لتستطيع التكيف مع دماء خصوم تراهم كفارا خونة أعداء للوطن. أما إن كان وخز ضميرك مؤلما فعليك بمخدر نزع الإنسانية عن خصومك ومخالفيك واعتبارهم قطيعا من الأنعام لا يحرك فيك شيئا أن يتم ذبحه وسلخه أو حتى حرقه حيا كما حدث ببورسعيد مؤخرا، كل تلك الأدوية والمسكنات ستساعد على تثبيت حالة الإنكار لدى جميع الأطراف وستعينهم على غض الطرف عن أى دماء تراق بل ربما الفرح بها والرضا عنها وتنسى الجميع هذا الحديث الجامع الذى أهديه لكل نفسية نعامية تصر على دفن رأس ضميرها فى الرمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عُمِلتِ الخطيئةُ فى الأرضِ؛ كان من شهِدَها فكرِهَها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها (فرضيَها) كان كمن شهِدَها» رواه أبوداوود.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة