لا تخلو المجلات والصحف القديمة من موضوعات تتحدث عن أزمة الأغنية، رغم وجود عشرات الملحنين والمغنيين والشعراء العباقرة، الذين رسموا للوجدان المصرى والعربى جدارية يتوه فيها القلب، وكان الحديث عن الأزمة يتوقف تماما فى الأحداث الكبرى التى تستنفر فيها صناعة الغناء، ويجتمع الناس على جمل لحنية تعبر عن حاجة الناس إلى الغناء معا، حدث ذلك فى ثورة 19 وثورة يوليو وفى 56 و67 و73، كانت الموسيقى قادرة على الكشف عن المناطق العفية المنسية داخل المصريين، وليس صحيحا أن فن الرواية هو ديوان المصريين كما روج نقاد الأدب، لأن الغناء كان المرآة الحقيقية لهم، المرة الوحيدة التى ارتبك فيها الوجدان رغم حاجته لغناء جديد هذه الأيام، رغم وجود ثورتين عظيمتين فى أقل من ثلاث سنوات، وعندما تنجح أغنية مثل «تسلم الأيادى» تكتشف أنها استثمرت جملة لحنية قديمة وقريبة إلى القلب هى «تم البدر بدرى»، وربما هى سبب رواجها، بالإضافة إلى الإلحاح على إذاعتها طوال الوقت، الإعلام الخاص روج فى السنوات الأخيرة لتجارب أعتقد أنها حداثية وتعبر عن ذوق شباب الثورة، رغم علم الجميع أن الأغنية التى لا يرددها الناس العاديون هى أغنية فاشلة، لأننا نحمل جميعا تراثا بداخلنا يحتاج من يستحثه، ولكن الانحراف عن مسار الغناء العربى فى مصر جعلنا نشعر بالفقر، رغم وجود وفرة فى الأصوات الجميلة والشعراء الموهوبين، الذين لا يحتمل قانون السوق وجودهم، وهنا يجب أن تفتح الدولة الأبواب، وتمد يدها لإنقاذ هذه الصناعة العظيمة، وتبحث عن ملحنين جدد، لأن الأزمة هى فى غياب الملحن الذى يبحث عن المشترك ويولف موسيقاه لكى يغنى الجميع معا، ولنتذكر بليغ حمدى هذه الأيام، عندما اصطاد جملة اغنية تخونوه لعبد الحليم البسيطة الموجعة، تأكد الجميع أن شيئا جديدا يتسلل إلى الموسيقى فى مصر الخمسينيات، كان كمال الطويل ومحمد الموجى ومنير مراد يجتهدون فى خلق حالة شابة تتسق مع مجتمع يسعى للتحرر ويؤمن بقدرة المصريين على إنتاج موسيقى تخصهم، وأن الريفيين قادرون على استثمار خبراتهم فى إنتاج شىء طازج يوضع إلى جوار ملحنى المدينة الذين أسسوا للنهضة الموسيقية منذ نهاية القرن التاسع عشر.
بليغ كان يصل إلى العصب الحى من أقصر طريق، كانت تذاع ألحانه فى حفلات المساء ويرددها الناس فى الصباح، أنت مع ألحان بليغ لا تركز كثيرا مع الكلام (باستثناء الأغانى الوطنية)، أنت تمسك بنفسك تدندن شيئا يخصك، تضرب جذوره فى مناطق أبعد من زمن بليغ، لم يقدم نفسه باعتباره صاحب مشروع، هو نجح فى جمع الناس حول أنغام منسية بداخلهم، الحالات العظيمة فى ألحانه كانت مع الأبنودى، لأن جذورهما البعيدة تضرب فى الأرض نفسها، ثم عبد الرحيم منصور ومجدى نجيب، أشهر أغانيه فى الثمانينيات وبداية التسعينيات كانت من تأليفه تحت اسم ابن النيل، مثل أنا باعشقك وسيدى أنا، حيث لا يوجد كلام، توجد كلمة واحدة يبنى عليها تصوراته اللحنية المؤلمة والنافذة، بليغ جعل المصريين جميعا يرقصون رقصة المذبوح بعد هزيمة 67 فى أغانى فيلم أبى فوق الشجرة، وربت على أرواحهم بـ«عدى النهار»، صنع مع عبد الحليم وشادية ونجاة وصباح وفايزة أحمد جدارية للأشواق الخام، وحاول مع عفاف راضى ومحمد رشدى وهانى شاكر، ولكن ألحانه لهم كانت أكبر منهم، هو قادر على وضع مادة سحرية على الأصوات الغامقة القوية لكى تستقبل الصباح بها، يمكن وضع بليغ حمدى ضمن «أفيش» مصر المباغتة الطفلة الشفافة الناهضة الحرة، مع نوع من المبدعين العابرين للأجيال، مثل يوسف إدريس وصلاح جاهين وحجازى الرسام وأحمد بهاء الدين وعبد الهادى الجزار وسعاد حسنى، والذين إذا جاءت سيرة أحدهم لا تعرف ماذا تقول؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة