فى شهر فبراير الماضى تم نشر هذا المقال، وها أنا أعيد نشره بعد مقتل 25 مجندا شابا ذرفت مصر عليهم الدموع، أما أنا فقد ذرفت الدموع ضعفين لأنهم كانوا حتى فى أقسى أوقات عدائى لهم وما زالوا كلهم أحمد سبع الليل أو البرىء.. وها هم الإرهابيون قد قتلوا البرىء.
مقدمة لابد منها: يا أيها السيد القارئ أرجو أن تلقى قبل قراءة هذا المقال كثيرا من تحيزك أيا كان، وكثيرا من حالة الاستقطاب والتطرف التى صرنا نعانى منها جميعاً فى مصر الآن، أعرف أنى أطلب منك مطلبًا صعبًا بل شديد الصعوبة ولكن حاول، كما حاولت أنا أن أتخلص من بعض من غضبى وحزنى وحنقى على ما يحدث وأن أستدعى عقلى وقلبى كبشر فى وقت تناسى أغلبنا فيه معنى أن تكون بشرا، لا أطلب منك ولا من نفسى أن تنسى وأنت تقرأ وجه شاب مثل جيكا ولا الشيخ عماد ولا الحسينى أبو ضيف أو محمد الجندى وغيرهم كثيرون، لا تنساهم فذكراهم وقود للحياة. انتهت المقدمة وتلك هى الحكاية.
يوم الجمعة قبل الماضي كنت بين آلاف من المتظاهرين عند قصر الاتحادية أهتف طلبا للحرية التى تصورنا أننا انتزعناها، وأصرخ طلبا للعدالة الاجتماعية التى حلمنا بها وما نلناها وأحلم كملايين غيرى بوطن يسعنا جميعاً دون سمع وطاعة، كانت المظاهرة تضم سيدات ورجالا وأطفالا وشبابا من كل الطوائف يجمعهم الحلم، فإذا بحوالى عشرين شابا وفتاة يخترقون المظاهرة السلمية المتحضرة ليحولوها إلى هرج ومرج وكأنه إشارة لبدء الحرب التى دارت رحاها بين قوات الأمن المركزى والمتظاهرين، ونزلت علينا قنابل الغاز المسيل للدموع كالأمطار الفاسدة، وكانت للحق مختلفة وأكثر قسوة فى تأثيرها من أى قنابل للغاز ساقتنى الظروف لاستنشاقها، وكان مشهدا عبثيا فالبنات والسيدات اللاتى كن يصطحبن أمهاتهن المسنات صرن يحاولن حمايتهن بالابتعاد عن المشهد، والأمهات الصغيرات اللاتى اصطحبن أطفالهن يحاولن حمايتهم، والشباب والرجال يردون على الغاز ببعض طوب هنا أو هناك، وربما فى هذه اللحظة كان حمادة صابر يتم سحله عارياً دون أن يدرك أغلبنا ما يحدث فى الطرف الآخر من الشارع، فكل منا يبحث عن خلاص أو اشتباك اضطر له.. تلك كانت صورة شارع الميرغنى الذى يقع فيه القصر وتسير فيه المظاهرات، وبغض النظر عن وصفى لهذه الحالة التى نقلتها الكاميرات وتعرفونها جيداً وتداعيات الموقف، فقد استضافتنى عائلة كريمة تسكن إحدى فيلات شارع الميرغنى دون معرفة مسبقة لمساعدتى على تجاوز تأثير الغاز فى مشهد شديد المصرية التى تتسم بالجدعنة والوطنية حتى إننى تذكرت أحداث فيلم «فى بيتنا رجل» مع الفارق طبعًا، فلا أنا عمر الشريف ولكن هم كانوا كعائلة حسين رياض الجميلة الدافئة المحبة لهذا البلد كملايين غيرهم دون ادعاء أو أضواء.
لكل شىء نصفان كما لكل صورة أيضاً وأنا قد وصفت لكم نصف الصورة والمشهد، لأن الظروف قد ساقتنى إلى مشاهدة النصف الآخر، فبعد أن تركت بيت العائلة الكريمة التى استضافتنى اضطررت للترجل على قدمى فى الشوارع الخلفية لكى أخرج من المشهد، فإذ بى أجد نفسى فى مواجهة قوات العدو التى أحرقت عينى وصدرى وجلدى، نعم قوات العدو أو هكذا كنت أشعر فى حينها، سرت فى شارع جانبى تتمركز فيه قوات الشرطة لأجد قادتهم فى حالة عصبية بدت واضحة من صراخهم فى العساكر المؤتمرين بأمرهم، وهؤلاء العسكر الصغار بعضهم ملقى على الرصيف من فرط التعب والإرهاق، وآخرون ينادى عليهم ضابط أو أكثر بالسباب ويصطفون وهم فى حالة أكثر إعياء من هؤلاء الملقين على الأرصفة، وآخرون مستندون على حائط تبدو عيونهم وعقولهم تبحث عن معنى لما يفعلونه وتدمع عيونهم تماماً كعيونى، توقفت لبعض الوقت أرقب مشهد قوات العدو فى شارع مظلم، وغصبًا عنى وجدت ذاكرتى تستدعى موقفا عشته منذ سنوات حين كنت أقف أمام نقابة الصحفيين فى إحدى التظاهرات التى لا أذكر سببها، وكان عددنا لا يتجاوز الثلاثين وتواجهنا مئات من عساكر الأمن المركزى، وحين طالت الوقفة تبادلت حديثا عابرا مع الجندى المواجه لى فسألته إن كان يعرف سبب اعتراضنا أو غضبنا والمكان الذى نقف أمامه فأجاب بالنفى وحين رأى ابتسامتى وودى طلب منى أن ألم الناس ونمشى لأنه وزملاءه تعبوا وجاعوا وما دمنا نحن وقوف فهم لن يتحركوا.
تذكرت تلك اللحظة، وأنا أقف فى الشارع المظلم أرقب قوات العدو تعيد تنظيم نفسها، واستدعت ذاكرتى أيضا أحمد سبع الليل الشخصية التى ابتدعها وحيد حامد فى فيلم البرىء، جندى الأمن المركزى الأمى الذى علموه أن كل من يقول لا هو عدو الوطن وحين اكتشف الحقيقة انقلب من العبد المطيع إلى الثور الهائج القاتل للظلم.. ولمن لا يعرف كيف يتم تعيين هؤلاء العساكر فى قوات الأمن المركزى أحكى لكم كيف فهؤلاء المجندون يذهبون فى البداية لمعسكرات الجيش ليتم فرزهم وهو تعبير دقيق للعملية التى تتم، فيتم حصول الجيش على الفرز الأول أى أنهم يختارون العناصر الأفضل من حيث الذكاء والتعليم والقدرات البدنية، ومن يبقى منهم فيتم توريده إلى الشرطة فتقوم الشرطة بفرز آخر تختار منهم الأفضل للخدمات، ومن يبقى يتم إلحاقه بالأمن المركزى، إذاً العدو أو بالتحديد قوات العدو مكونة من فقراء جهلة يعملون بالسخرة فى ظروف غير آدمية نكرههم ويدفعونهم لكراهيتنا مرتين مرة ربما لأننا أعداء الوطن أو كفرة فجرة، ومرة لأننا سبب فى تعبهم وغلبهم ووقوفهم ساعات طويلة وضربهم بالطوب الذى يردون عليه بالطوب وربما بالخرطوش.. جنود الأمن المركزى كحالة السجين والسجان فنحن السجين وهم السجانون ولكنهم مسجونون مثلنا بل أكثر لأن من يخرج ليعترض أو يتظاهر أو حتى يموت فهو يعرف لماذا خرج وعلى ماذا يعترض وفيما مات، ولكن هؤلاء الشباب الصغار مساجين الجهل والفقر لا يعرفون فيما خرجوا ولا فيما يضربون أو يُضربون ولا لماذا يقتلون أو يُقتلون؟ هم أسرى الجهل والفقر ومجتمع ظلمهم مرات ومرات فجعلهم أداة لقمع الحرية التى يفتقدوها، وأحياناً قتلى لقضية لم يعرفوها ولا اختاروها بإرادة منهم.