أدين لثورة يناير العظيمة بالعديد من الأشياء التى لم أكن لأعرفها لولا معاصرتى لوقائعها يوما بيوم، فمن ثورة يناير فهمت ما لم أكن أفهمه فى التاريخ الإسلامى بالشكل الذى جعلنى أعيد تفسير التاريخ وفق منظور حديث، فقرأت مفردات التاريخ الإسلامى باعتباره صراعا بين الثورة والثورة المضادة، متخيلا أن دعوة نبى الله محمد، صلى الله عليه وسلم، كانت ثورة على الظلم والطغيان والعبودية والاحتكار، وأنها نجحت فى أول الأمر فى القضاء على هذه الظواهر المميتة، لكنها لم تستأصلها من المجتمع، وذلك بسبب تحول بعض المتحولين من الكفر إلى الإيمان، دون رسوخ الإيمان بقيم الإسلام وتعاليمه فى قلوبهم، ولذلك جاهدوا من أجل إعادة «النظام السابق» بكل مفرداته ونجحوا فى ذلك على يد بنى أمية حينما قضوا على نظام الشورى الإسلامى الذى خطا بالبشرية خطى واسعة نحو المدنية والحداثة وأسسوا ملكا جبريا على غرار ممالك الجاهلية، ليبدأ عهد الفتن الكبرى والمذابح الدامية التى شهدها العالم الإسلامى الوليد الذى سرعان ما تجرع ويلات القتل والسبى والاغتصاب الجماعى من جانب «مسلمين» ضد «مسلمين».
ومثلما تكشفت أمامى مفردات التاريخ الإسلامى البعيد تكشفت أيضا أمامى مفردات التاريخ المصرى الحديث، فقد كنت أظن حتى وقت قريب أنه لا علاقة بجماعة الإخوان المسلمين بحوادث الإرهاب الدموى التى وقعت فى الثمانينيات والتسعينيات، وكنت أظن أن الإخوان «فصيل وطنى» من الممكن أن يتم إدماجه فى الحياة السياسية المصرية، متخيلا أنهم أكثر اعتدالا من غيرهم، وأنهم قد يكونون قابلين للتطور مثلما تطور منشقو الجماعة فى حزب الوسط أو فى تيار «أبو الفتوح»، أسهم فى هذا قراءاتى لكتب بعض رموز الإخوان المستنيرين أمثال محمد الغزالى ويوسف القرضاوى الذى ضبطت نفسى متلبسا بتقبيل يديه حينما رأيته، وتغاضيت عن زلات هذين العالمين فى السابق ظنا منى أن التغاضى عن الزلات ضريبة حتمية للتعايش مع فصيل كبير من أبناء الشعب المصرى آمل فى أن يكونوا ذخيرة للوطن إذا ما احتاجهم الوطن.
من هذا المنطلق، كتبت ذات يوم مدافعا عن سيد قطب متعاطفا مع تجربته التفكيرية، متغاضيا عن نبرته التكفيرية، معتقدا أن ثورة يوليو هى التى دفعته إلى التطرف، لكن ها هى الأيام تثبت أن كل هذه النظريات خاطئة، وأن الإخوان هم الراعى الأول للإرهاب، وأن رموزهم «المعتدلة» «الوطنية» لا تعرف من الاعتدال والوطنية إلا قشرتيهما، ثم بدأت الحقائق التى كنت أعرفها تتكشف أمامى دفعة واحدة، لأدرك أن قشرة الاعتدال سرعان ما تذوب فور تعارضها مع أطماع الجماعة، فها هو محمد الغزالى يفتى بقتل فرج فودة، لأنه كان يحمل مشروعا مدنيا يحمل فى طياته أسس البناء الديمقراطى الحديث، وها هو القرضاوى يدعو متطرفى العالم للجهاد فى مصر لمجرد أن الشعب المصرى ثار على ابن جماعته، وها هو حزب الوسط ينحرف عن مساره الذى خدع الشعب المصرى به ويصبح عرابا للمتطرفين، وها هو أبوالفتوح يكشف عن وجهه الحقيقى كـ«استبن» للمشروع الإخوانى الرئيسى، وها هى القاعدة تعربد فى سيناء تحت إشراف الجماعة لتستعين بأبنائها القدامى أمثال أيمن الظواهرى فى إرهاب الشعب المصرى وإرهاق جيشه وموارده، مستعدين لبذل الغالى والنفيس من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والانقضاض على مكاسب ثورة يناير وموجاتها التصحيحية، والانقضاض على تاريخ المدنية المصرية ليضعوا مكانه رجعية جاهلية، وها هم جميعا يكشفون عن وجههم الإرهابى المقيت لنتأكد من أن قلبهم واحد وأقنعتهم متعددة وأنهم ينتظرون ذلك اليوم الذى يغيب فيه النداء «هنا القاهرة» ليعلو صوت إرهابهم مجلجلا «هنا القاعدة».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة