الأمة العاقلة لا تُظلم، هذا ما قاله الإمام الرائد محمد عبده منذ أكثر من قرن، فاتحا بذلك الباب لفض الإشكال الجديد القديم والتعارض الوهمى بين العقل والنقل، إذ جعل التعقل متمماً لشريعة الله، واعتبره وحيا متجددا ينمو به الإنسان ويرتقى، وسراً ربانياً إذا ما اكتشفه الإنسان صار محصنا من الظلم، وذلك أسمى ما يرنو إليه الإسلام، دين الله الخاتم الذى أتى لينشر العدل وينصر الضعيف ويحقق المساواة بين عباد الله، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح والإسهام فى البناء، لكننا للأسف لم نستمع جيدا لما قاله الإمام، كما لم نسمع لغيره من أكبر المصلحين والمفكرين المصريين، ولأننا لم نسمع لم نر ولم نتكلم، لنغوص فى بحور الاستبداد عصرا بعد عصر، حتى أتى حكم الإخوان فلم يكتفوا بتجاهل مقولة الإمام فحسب، وإنما سعوا إلى إقصاء من عمل بها، ولذلك ما إن شعرت الجماعة باقتراب التمكين حتى بدأت فى تنفيذ مخطط التنكيل بالثقافة والمثقفين، لأنهم أرباب العقل ودافعو الظلم، ولذا كانت بشائر ثورة يونيو واضحة باعتصام المثقفين الذين هزوا عرش الإخوان بالكلمة والقصيدة والأغنية.
الغريب فى الأمر أنه بعد أن من الله علينا بتخليص مصر من قبضة الإخوان، لم تفعل وزارة الثقافة شيئا يحسب لها فى سبيل تحرير العقل المصرى من ضلالات الجماعة وخزعبلاتها، والأغرب أن الحكومة الحالية تضم العديد من الشخصيات المحسوبة على «الثقافة» بشكل أو بآخر، لكنهم لم يتنبهوا إلى أن المعركة الأساسية هى معركة «ثقافة» فى المقام الأول، وقد كنت أنتظر من الدكتور حازم الببلاوى صاحب المؤلفات الاقتصادية والاجتماعية المهمة، أن يبدأ بوضع استراتيجية ثقافية ذات أهداف واضحة على المستويين القريب والبعيد، لكنهم للأسف لم يفعلوا، وأخشى أن يمر الشهر بعد الشهر دون أن يفعلوا.
المطلوب الآن من حكومة يرأسها حازم الببلاوى ونائب رئيسها حسام عيسى والنائب الآخر زياد بهاء الدين، وتضم كمال أبوعيطة، وأحمد البرعى بالإضافة إلى غيرهم من الوزراء المحسوبين على الثقافة، بالإضافة طبعا إلى الدكتور صابر عرب وزير الثقافة، والدكتور محمد إبراهيم وزير الآثار والدكتورة درية شرف الدين وزيرة الإعلام، أن يضعوا خطة عاجلة تجعل الثقافة وجبة يومية فى بيوت المصريين، وأن يسارعوا بوضع هذه الخطة أو على الأقل يولوا مؤتمر المثقفين المزمع انعقاده فى أكتوبر القادم بالمجلس الأعلى للثقافة اهتماماً أكبر، حتى تتم ترجمة أعمال هذا المؤتمر إلى مشاريع وتوجهات ثقافية استراتيجية على أرض الواقع.
يقول شاعرنا الأكبر «عبد الرحمن الأبنودى»
إذا مش نازلين للناس
فَ بلاش
مادام الدايرة ما كمّلاش
والحاجة ما تمّاش
وأصحاب الحاجة ما عارفاش
إيه المعنى
وأى بطولة
فِ إن حياتنا
وأحلى سنينَّا
يروحوا بلاش؟
ولا يعنى تجاهل حالة التجهيل التى أصابت قطاعات كبيرة من الشعب المصرى سوى أننا نلقى بالمصريين مرة أخرى فى أحضان التطرف الأعمى والجماعات المضللة أو فى غياهب الترامادول وأدران بلطجية الفضائيات.