مصر تعيش اللحظة التى تحتاج فيها إلى تلك «القشة» التى تنقذ الغريق، تحتاج إلى من يمد يده ويأخذ بها بعيدًا عن برك الارتباك، ومستنقعات المعارك التى لا تسمن ولا تغنى من جوع.
فى كتب التاريخ، وفى تلك الصفحات التى تتحدث عن أزمنة مصر الماضية، كانت هناك لحظات مرتبكة وخطيرة مثل تلك، وقتها كان يظهر- من حيث لا يدرى أحد ولا يحتسب- رجال مثل مصطفى كامل، ومحمد فريد، وقاسم أمين، ليلقوا للوطن الغارق طوق نجاة يدفعه كثيرا نحو بر الأمان. لكن ظل دور هؤلاء- رغم عظمته- أقل بكثير من الدور الذى يلعبه رجال مثل العز بن عبدالسلام، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغانى، وغيرهم من علماء الدين المحترمين، والمفكرين الذين جعلوا من علمهم طوق نجاة دائما لإنقاذ عقل هذا الوطن من الغرق.
علماء الدين كانوا الأكثر تأثيرا فى اللحظات الحاسمة فى مستقبل هذا الوطن.. راجع أزمات مصر وأوقاتها الصعبة، وستجد دائما عند لحظة الخروج من المأزق عالم دين ما يقف ويشير بإصبعه إلى حيث أبواب الخروج السهلة، ربما لطبيعة مصر المتدينة، أو طبيعة أهلها الذين تغلبهم فطرة التعلق بالسماء وأهلها.
مصر الآن تحتاج إلى علماء دين يملكون القدرة على صياغة هذا الخطاب، تحتاج إلى علماء دين يقفون فى منطقة الاعتدال والوسطية، يستمدون منها الأفكار القادرة على مواجهة دعوات التعصب، ويستمدون منها ثقة الناس فى أن عملهم خالص لوجه الله، ونهضة هذا الوطن، وليس لمصلحة تيار أو شعار معين.
وبغض النظر عن رؤيتك التى ربما ترى فى التعلق بـ«قشة» علماء الدين المستنيرين لإنقاذ هذا الوطن هدما لفكرة الدولة المدنية وخلافه، فإن التجارب التاريخية لهذا الوطن أكدت أن طوق نجاته وتحرره يقبع دائما فى عقل عالم دين، مثل الشيخ محمد عبده، قادر على تحرير العقول من عبادة النصوص، وتقديم أطروحات فكرية معاصرة تملك القوة على صياغة وتشكيل وعى وطنى جديد، تذوب فيه الفوارق، ويدفع الأمة نحو نهضة جديدة.. نحن فى حاجة فعلية إلى هؤلاء الشيوخ، سواء الذين اعتدناهم وعهدناهم قانعين مدافعين عن هذا المنهج، مثل أجلاء الأزهر الشريف، الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، والعالم الأزهرى واسع العلم والمعرفة الدكتور أسامة السيد الأزهرى، والشيخ على جمعة، والداعية الشاب صاحب الخطاب الفكرى النهضوى معز مسعود، والدكتورة سعاد صالح، والشيخ جمال قطب، أو هؤلاء الذين فتحت الثورة أمامهم أبواب اتصال مفتوح مع الجمهور، بعيدا عن التعتيم الأمنى والإعلامى، فاكتشفنا تطورًا ملحوظًا فى خطابهم الدينى، أو أعدنا اكتشاف نقاط كثيرة كانت مختبئة بحكم الإبعاد الأمنى والإعلامى الذى فرض بيننا وبينهم.
مصر الآن تريد هذا النوع من الشيوخ الرافضين لفكرة الدولة الدينية، والأشخاص الذين يعلنون أنفسهم متحدثين باسم الله فى أرضه، مصر تريد شيخا، مثل معز مسعود، قادرًا على أن يطرح حلولا مختلفة للتواصل الاجتماعى، وإعادة دمج الدين فى الدنيا، بعيدًا عن تسلط القهر والقمع.
تريد شيخًا أو رجل دين فى شجاعة الدكتور ناجح إبراهيم، قادرًا على مراجعة نفسه وأفكاره، وقادرًا على أن يقف فى وجه الغلو السلفى، ويخبر السلفيين الذين أغوتهم عوالم السياسة والسلطة أنهم انحرفوا عن طريق الإسلام القويم.
نريد علماء دين مدركين لمفهوم الديمقراطية، ومعناها، ولا يرونها كفرًا أو رجسًا من عمل الشيطان كما قال الشيخ عبدالمنعم الشحات من قبل.. نريد شيوخا مثل الإمام الأكبر أحمد الطيب، وعلى جمعة، قادرين على وضع وثيقة محترمة تحكم علاقة الحاكم بالمحكوم، وتحدد الطريق نحو تحقيق دولة مدنية قائمة على أسس إسلامية أخلاقية.. نحلم بعالم دين لا يخشى فى خالقه لومة لائم، قادر على أن يقول كلمة الحق فى وجه السلطان الجائر.. نريد علماء دين لا يطمعون فى السلطة، ولا يحبون السير فى طريقها.. نريد رموزًا سلفية نختلف معها قدر ما نختلف، لكن يبقى باب الحوار معها دائمًا مفتوحا، ودائمًا بلا غضب، ودائمًا بلا اتهامات تكفير.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة