فى كل الدساتير المصرية هناك تأكيد على الفصل بين السلطات.. السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية. وفى كل الدساتير المصرية مواد تحكم هذه السلطات الثلاث، وتؤكد الفصل بينها، وتحدد مهام كل سلطة إزاء الأخرى، وقدسية استقلال القضاء أمام السلطة التنفيذية، وكذلك رقابة السلطة التشريعية، ممثلة فى مجلس الشعب على السلطة التنفيذية، وقبل ذلك كله التأكيد على أن السيادة للشعب، فهو مصدر كل السلطات.. إذن فالدستور من هذه الناحية مكتمل تماما إلا فى بعض الإجراءات التى قد يراها البعض قليلة، أو كثيرة فى طريقة مراقبة السلطة التنفيذية من الوزراء حتى رئيس الجمهورية الذى هو أعلى سلطة تنفيذية فى البلاد.
المشكلة فى مصر ليست هنا فى الدستور، ولكن فى الممارسة السياسية والحياتية التى تغفل الدستور إغفالًا تامًا، وعلى رأس هذه الممارسة تسمية بعض الوزارات بالوزارات السيادية، وهى بالتحديد وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، ووزارة العدل، ووزارة الخارجية، ومادامت هى وزارات سيادية إذن هى خارج الرقابة. ولقد شاهدنا أيام الحكم الأسبق، أيام مبارك، كيف كان مجلس الشعب يستدعى وزير الداخلية فلا يذهب ويرسل أحد رجاله، فالأمر كله لا يعنيه، كما لم نرَ أبدًا فى أى عصر مناقشة مع وزير الخارجية فى مجلس الشعب حول أى أمر من أمور السياسة الخارجية، ومنها مثلا حقوق المصريين فى الخارج، وأوضاع المكاتب الإعلامية والثقافية وماذا تفعل، وغير ذلك من القضايا، فضلا طبعا على تطورات العلاقات مع غيرنا من الدول. أما وزارة العدل- رغم أنها جهة تنفيذية- فهى خارج أى نقاش باعتبارها جهة قضائية!.. أمر محير طبعا.. يمكن جدا مناقشة وزير العدل فى الفضائيات التليفزيونية، لكن فى مجلس الشعب يتعذر الأمر!، والأمر نفسه يحدث مع وزارة الخارجية التى كثيرا ما يطل من الفضائيات متحدثها الإعلامى، يجيب عن أسئلة مثارة بسبب بعض المشكلات التى أشرت إليها، لكن الاستجواب فى مجلس الشعب لا يتم، طبعا حين كان لدينا مجلس شعب.. الأمر بالنسبة لوزارة الدفاع شديد الاختلاف، فهى خارج هذا الكلام كله، وهى سلطة قائمة بذاتها، والاقتراب منها اقتراب من حقل ألغام، ولقد هيأت لها كل الدساتير الاستقلال التام، رغم ما يقال عن المناقشة فى لجان خاصة أو مغلقة لبعض الموضوعات التى تتعلق بالأمن القومى.
أربع وزارات كبيرة خارج المراقبة أو المحاسبة الشعبية، رغم أن الشعب صاحب السيادة، ممثلا طبعا فى مجلس نوابه.. يهمنا جميعا أن تخضع هذه الوزارات للرقابة الشعبية، وليس من بينها من يحتاج إلى شىء من السرية إلا وزارة الدفاع التى تكون لها طريقة مختلفة فى الرقابة لهذا السبب، وإن كان هذا يدخل فى التفاصيل أكثر من العموميات.. فميزانيات هذه الوزارة معروفة ومعلنة، لكن ما معنى السرية فى الوزارات الأخرى؟ لا معنى لها، بل الأصح أن الشفافية فى عملها تقلل من الخطر على النظام.. ولقد رأينا كيف كانت ثورة يناير احتجاجا بالأساس على تصرفات وزارة الداخلية التى فاقت سيادتها كل حدود الوزارات السيادية، بما فيها وزارة الدفاع نفسها.. كيف يضمن الدستور الرقابة الشعبية على هذه الوزارات؟ وكيف تنتهى كلمة سيادية من القاموس السياسى؟.. هذا هو سؤال الدستور وتطبيقه أو تحويله إلى قوانين، هذا جانب.. الجانب الآخر هو تغول السلطة التنفيذية على باقى السلطات فى الحياة، فمثلا، كثير جدا من السادة رجال الجيش والبوليس والقضاء يتحولون بعد بلوغهم سن المعاش أو قبله إلى محافظين ورؤساء أحياء.. ستقول لقد خلعوا البدلة الميرى، سأقول لك نعم، لكنهم جاءوا بالتعيين، وليس بالانتخاب، ومن ثم اختيارهم يعود للسلطة التنفيذية، ولا رقابة للسلطة الشعبية عليهم.. وبالمناسبة هذا أحد أسباب كل ما وصلنا إليه من مشكلات اجتماعية وغيرها فى المحافظات، ولا أحد يريد أن يتعظ من ذلك، كيف تدهورت أحوال المدن فى مصر؟ لا أحد يريد أن يصدق أن ذلك حدث بسبب حكامها الذين هم دائما من خارج هذه المدن، وخارج الحياة المدنية، يأتون وفى نفوسهم إحساس بالتميز والاستقرار النفسى الذى يأتى من يقينهم أنهم خارج المحاسبة، وإذا كان واحد أو أكثر ينجح منهم، فالباقون وصلوا بالمدن إلى ما نحن عليه الآن.. إذن، لابد أن ينص فى الدستور الجديد على انتخاب المحافظين لا تعيينهم، وانتخاب المحافظين فرصة للتجريب السياسى، والتدريب أيضا، وطريق مفتوح على الرئاسة وغيرها.. سيقول قائل إن هذا لا يصلح فى الصعيد بسبب العصبيات التى ستنتخب من بينها، والإجابة: وهل حين يكون المحافظ منتخبًا ستسكت الأقلية على حقوقها؟، ثم إن العصبيات طال بها الزمن وسببت تخلفنا، ولابد من ضربها، ولا يكون ذلك إلا بالديمقراطية والممارسة الديمقراطية فى عالم يتغير كل يوم، ويحتل شبابه الواجهة فيه بثقافتهم القادمة من عالم الحداثة، وما بعد الحداثة، وهى الحرية على إطلاقها، والكرامة على إطلاقها، والعدالة على إطلاقها أيضا.. الدنيا تتغير حولنا، ونحن نضع فى الاعتبار عوامل تخلفنا.. كذلك يتجلى تغول السلطة التنفيذية فى المحاكمات العسكرية للمدنيين، والتى تحتاج من اللجنة الموقرة لصياغة الدستور العمل والتفكير فى طريقة تحفظ بها قيمة المؤسسة العسكرية باعتبارها حامية للوطن والناس، وقيمة الوطن والناس أيضا!.. يمكن جدا الفصل فى الجرائم بين ما يقع على المؤسسة العسكرية من هجوم مسلح، والاحتجاج العادى، أو بين ما يقع من عصابات مسلحة على معسكرات الجيش، وما يقع من احتجاج سلمى داخل المدن، أو يمكن تغليظ عقوبات الاعتداء على المنشآت المدنية، أو ما يراه السادة المجتمعون من أجل صياغة الدستور، لكن المهم فى النهاية أن يقف الجانى أمام قاضيه الطبيعى.. يبقى مثال مهم على تغول السلطة التنفيذية، نجده مثلا فى تعيين القضاة مستشارين للمؤسسات المختلفة.. لا تقل لى إنه يترك القضاء، لكن قل لى إنه يساهم فى تقوية هذه المؤسسسات أمام القضاء، والأصح أن يفعل ذلك محامون وليس قضاة يذهبون إلى المؤسسات ثم يعودون إلى عملهم.. إنها طريقة ناعمة لتغول السلطة التنفيذية..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة