أغمض عينيك وأبحر فى تاريخ النهضة فى كل العصور والأزمان والأوطان، واختبر نفسك، ماذا تتخيل إن تذكرت تجربة نهضة محمد على غير البعثات العلمية والثقافية التى أرسها إلى أوروبا لتنهل من علومها وتقدمها وتصبها فى مجتمع الناهض، من تتذكر غير وجه رفاعة رفاعة الطهطاوى الذى رعى النهضة العلمية والثقافية فى مصر وأسهم باستنارته واستيعابه فى خلق جيل جديد من العلماء والباحثين، ماذا تتذكر من الحضارة الإسلامية سوى الزخارف المميزة والمساجد التى تعد تحفا معمارية فريدة، وماذا تتذكر غير ما تذخر به المتاحف العالمية من روائع الفنون والآثار وما تذخر به المكتبات الكبرى من أمهات الكتب وموسوعات الفلاسفة والفقهاء والأدباء والشعراء؟ ماذا تتذكر من النهضة الأوروبية غير أعمال مايكل أنجلوا ودوناتلو ورفايل وبوتشلى؟ ماذا تتذكر من الأندلس غير مبانيها العملاقة وطرزها المعمارية الفريدة المميزة وفنونها وموسيقاها وموشحاتها؟ ماذا تتذكر من نهضة عبد الناصر سوى «وطنى حبيبى الوطن الأكبر» وقصور الثقافة التى انتشرت عبر ربوع مصر وإذاعة القرآن الكريم وبرج القاهرة ودار القضاء العالى؟
أننى لم أكن لأنكر ما للعلوم الحياتية والعسكرية والصناعات من أهمية قصوى فى عصور النهضة والازدهار، لكن ما أود التأكيد عليه هو أنه لا نهضة علمية واقتصادية دون بناء استراتيجية ثقافية متكاملة، تبنى الفرد وتنميه وترعاه ليصبح هذا الفرد هو «الأساس» وجدير بالذكر هنا أن أشير إلى تصريح الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى حديثه أمس الأول على قناة السى بى سى حيث قال «وضع اليد على بلد بثقافة وتاريخ مصر أمر صعب» فى إشارة منه إلى فشل محاولة الإخوان فى الاستيلاء على مصر وتغيير هويتها، فالثقافة هى خط الدفاع الأول والأخير، والثقافة هى الدرع والسيف، والثقافة هى الذخيرة والسلاح، حتى أن هناك الكثير من المؤرخين يرون أن أهم أسباب انتشار الدعوة الإسلامية وأهم أسباب رسوخ الحضارة الإسلامية هى أنها أتت بثورة ثقافية كبيرة فكانت خير عون على بناء الدولة الحديثة.
تحدثنا الحكومة عن الاقتصاد، وتحدثنا عن الأمن، لكنها لم تحدثنا يوما عن الثقافة، برغم أن ثورة مصر على الإخوان كانت فى الأساس ثورة ثقافية، ولا ينكر أحد أن استهانة الإخوان بتاريخ مصر وحضارتها ونيتها لتأجير الأهرامات وأبوالهول كانت من أهم عوامل كراهية الشعب لهذا الفصيل الإرهابى، وأعرف كيف تتجاهل حكومة الدكتور الببلاوى وضع استراتيجية ثقافية متكاملة برغم أنها تعد «حكومة مثقفين» وأنها على علم تام بأنه لا تقدم فى الاقتصاد دون التقدم فى الثقافة، وأنها على علم تام أيضا بأن أكثر المناطق اضطرابا هى أضعفها ثقافة وأبعدها عن روح الثقافة المصرية الخالصة، وليتذكر الدكتور حازم الببلاوى أن محافظة مثل محافظة المنيا التى غالبا ما يسود فيها الاضطراب جاء ترتيبها «الأخير» فى الدراسة التى أجراها مركز دعم المعلومات بمجلس الوزراء والتى رصدت حظ محافظات مصر من الثقافة، ولينظر أيضا بعين الباحث إلى محافظاتنا الحدودية التى غالبا ما يأتى منها الاضطراب والإرهاب ليرى أنها محافظات تعانى من اغتراب ثقافى مقيت لا يليق بدولة مثل مصر، ولست أعرف من يعرف الدكتور الببلاوى أن الثقافة ليست رفاهية وليست ترفا وأنها «أمن قومى» وأنها هى التى تربط الإنسان ببلده وتحدياته، فسهل على الإرهابيين أن يتلاعبوا بالمسطحين الغافلين الذين لم ينالوا حظهم من الثقافة والتعليم، ويكاد يكون مستحيلا أن يتلاعبوا بمن تشرب روح الثقافة المصرية وعرف تاريخها وتذوق أغنياتها وحفظ أشعارها وتيم بجمالياتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة