مصر الآن وقبل أى مبادرات فى أمسّ الحاجة إلى سَن وإرساء قانون ووثيقة للعدالة الانتقالية.
وإذا ألقينا النظر إلى تجارب أخرى مقارنة فى موضوع العدالة الانتقالية سنجد أنها تقوم بالأساس على خمسة مبادئ: أولاً: التحقيق والاستقصاء بشكل دقيق فى تجاوزات الماضى، ثانياً: تعويض الضحايا المتضررين بشكل مباشر أو غير مباشر من التجاوزات، ثالثاً: مثول المتهمين أمام القضاء بشكل عادل يضمن مختلف درجات التقاضى ويضمن حقوق الدفاع أو بمصطلح آخر أُنهك المصريون فى المطالبة به «القصاص العادل»، رابعاً: اتخاذ إجراءات تغيير تضمن عدم تكرار ما حدث سابقا فى المستقبل مثل إصلاح قوانين حقوق الإنسان وإعادة هيكلة أجهزة الأمن، ويأتى فى المرتبة الخامسة: مبدأ المصالحة العامة بين الشعب ومؤسسات الدولة من جهة أو بين تيارات اجتماعية وسياسية مختلفة لإعادة الثقة وإعادة القدرة على التعايش بين أقصى التيارات اختلافا.
بهذه المبادئ يمكن إرساء نظام عادل وإعادة هيبة الدولة وتطبيق القانون على الجميع. لدينا فى الوطن العربى تجربة للعدالة الانتقالية فى المغرب عام 2004 حيث كلف محمد السادس لجنة الإنصاف والمصالحة بالتحقيق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان فى المغرب منذ 1956 إلى 1999 لرد الاعتبار للضحايا وتحقيق المصالحة الاجتماعية الشاملة.. وقد رفعت اللجنة بعد حوالى عامين تقريرا للملك ووقع على تطبيقه.
ومما سبق يتضح أننا لسنا ضد المصالحة الوطنية التى نراها تأتى فى المرحلة الأخيرة وأن ما قبلها من مراحل هى لازمة وضرورية لتحقيق مصالحة حقيقية. إذن فتطبيق العدالة الانتقالية بشكل كامل يؤدى فى النهاية إلى مصالحة وطنية حقيقية وليست فقط شعارات جوفاء.
وهذا الحديث يذكرنى بما ظللنا نردده السنوات الماضية خاصة تحت حكم الإخوان، وهو أن الديمقراطية ليست صندوق الانتخابات يا سادة. الديمقراطية عملية طويلة الأمد تنتهى بصندوق الانتخابات ولا تبدأ به. إذا لم تبدأ عملية الديمقراطية بشكل صائب لن تكون الانتخابات بمفردها معبرة عن الديمقراطية. وهذا بالفعل ينطبق الآن على العدالة الانتقالية فهى عملية تمر بمراحل مختلفة تنتهى بالمصالحة الوطنية لا تبدأ بها حتى تكون مصالحة حقيقية ومستدامة.
وقعنا فريسة لنظامين سابقين وعانينا من المجلس العسكرى وبعده نظام الإخوان، اللذين لم يسعيا مطلقا إلى العدالة الانتقالية الحقيقية لأنهما كانا معنيين أكثر بتحقيق مكاسب ومصالح من هذه المراحل الانتقالية ولا يضعان فى أولوياتهما مستقبل مصر كيف سيكون.
وعلينا أن نتعلم من أخطائنا. فلا يمكن تجاوز أحداث الماضى والاتجاه نحو بناء المستقبل والتحول الديمقراطى دون محاسبة شفافة ومعلنة لعل وعسى تكون عبرة وعظة للأجيال القادمة.
والأهم من كل ذلك هو إعادة صياغة المصطلحات ووضع قواعد جديدة للمناخ السياسى بناء على التغيير الذى حدث فى المجتمع، والامتثال لما يقبله المجتمع بعد هذا التغيير والبعد عما لفظه المجتمع حتى يستطيع التعايش معه بسلام. والمجتمع الآن لفظ وبكل قوة مصطلحات الأحزاب الدينية والإسلام السياسى ولن يستطيع فى المستقبل القريب استساغة هذه المصطلحات التى تذكره باستغلال وتجارة الدين وبماض أليم ثار ضده وأسقطه.
فلسنا على استعداد للجلوس للتفاوض أو التعاون مع من يصف نفسه بهذه المسميات. ولن نقبل بربط الدين الإسلامى الحنيف بكلمة السياسة فهو أعظم وأجلّ. فالإسلام تمثله مؤسسات الدولة الدينية مثل الأزهر ودار الإفتاء والسياسة يمارسها الجميع لها قواعدها التى تختلف كل الخلاف عن العقائد الدينية.
إن فشل ما يسمى بالأحزاب الدينية محتوم ليس بإرادة الدستور المصرى القادم وحده ولكن بإرادة الشعب المصرى الذى لم يعد تنطلى عليه حججهم باسم الدين. فعليهم أن يعوا أنه لا وجود لهم على الساحة السياسية فى بلد يسعى إلى إرساء معان حقيقية للديمقراطية والحريات بعد ثورات مستمرة لمدة عامين، إلا بعد توفيق أوضاعهم مع ما قرره واختاره الشعب المصرى.
وهنا أختم كلامى مخاطبة من فى السلطة التنفيذية، أرسوا مبادئ العدالة الانتقالية قبل إطلاق أى مبادرات لمصالحة وطنية ظاهرها شىء وباطنها شىء آخر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة