ناجح إبراهيم

عبود الزمر.. رؤية من قريب

الخميس، 09 يناير 2014 06:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أصدرت هيئة المفوضين بمجلس الدولة تقريرًا قضائيًا بإصدار حكم نهائى ببطلان قرارات العفو الصادرة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب ثورة 25 يناير برئاسة المشير طنطاوى، والتى شملت الشيخ عبود الزمر و59 آخرين من المحكوم عليهم فى قضايا جنائية وسياسية.

هالنى أن يفكر البعض فى عودة مثل الشيخ عبود الزمر إلى السجن مرة أخرى بعد أن جاوز السبعين من عمره، وانحنى ظهره، وبلغ من الكبر عتيا.

لقد قضى الرجل من قبل 30 عامًا كاملة غير منقوصة فى أول سابقة من نوعها فى التاريخ السياسى المصرى، بل أظنها فى تاريخ السجون السياسية فى العالم كله.. فمانديلا مكث فى السجن 27عامًا، ومع ذلك يُضرب به المثل فى العالم كله على طول مكثه فى السجون.

وقد كان لنا أخ طريف كان يقول للشيخ عبود منذ قرابة عشرين عامًا كاملة «عبود مانديلا»! فى وصلات المزاح الليلية أثناء فترات السجن الانفرادى فى السجون، وكان ذلك تقريبًا فى عام 1987، وكأنه يقرأ الغيب أو يستشرف المستقبل.

وكان يطلق هذا اللقب أيضًا على آخرين، وكلهم مكثوا بعد ذلك قرابة ربع قرن تقريبًا، وكان أطول رقم قياسى للسجون السياسية فى الستينيات ما مكثه بعض قادة الإخوان المسلمين وهو 19عامًا.

وكنا نظن أن أحدًا منا لن يتخطى سقف العشرين، فلما جاوزناها لم يتصور أحدنا أن يمكث بعضنا أكثر من ربع قرن، حتى كسر الشيخ عبود وآخرون هذه القاعدة ليسجلوا سبقًا مؤلمًا وحزينًا ومؤسفًا فى الوقت نفسه فى تاريخ السجون السياسية فى تاريخ مصر كله.
وقد عشت مع الشيخ عبود فى السجن قرابة عشرين عامًا كاملة.. وفى السجن تظهر الأخلاق الحقيقية للإنسان، حيث يكتشف الإنسان حقيقة نفسه وغيره أيضًا، فهو مثل السفر الطويل الذى قال عنه الحكيم عمر بن الخطاب «الذى تُعرف فيه أخلاق الرجال».. لقد كان كريم النفس، واسع الصدر، طيب القلب، صبورًا حكيمًا يتحمل الآخرين، ويصبر على أذاهم.. وقد خبرت بعض الضباط الذين سجنوا معنا فترة قصيرة فوجدتهم ضيقى الصدر، قليلى الحلم والتواضع للآخرين.. لكن الشيخ عبود كان شيئًا مختلفًا عنهم كما كنت أردد دائمًا، بالرغم من أنه ينتمى إلى أسرة عريقة، وهى «آل الزمر» المعروفة بشهامتها ووطنيتها وتدينها، وقد كانت هذه الأسرة دومًا فى صف الحكومة والحزب الوطنى، حتى كسر الشيخ عبود هذه القاعدة ثم تبعه آخرون.
وحياة الشيخ عبود الزمر فيها الكثير من العجائب، ومنها ما قصه علىّ فى يوم من الأيام قائلا: «إن المرحوم عباس رضوان كان قريبًا لأسرتى وكان ضابطًا فى الجيش ومن الضباط الأحرار، وقد اختير للعمل فى المخابرات المصرية، ثم تدرج فيها حتى أصبح من المقربين من رئيسها صلاح نصر وكذلك المشير عامر، ثم أصبح وزيرًا فى عهد عبدالناصر، تم قبض عليه وسجن فى السجن الحربى ضمن تنظيم شمس بدران بعد نكسة 5 يونيو 1967، وحكم عليه بالسجن عدة سنوات».
وحينما كان عباس رضوان ضابطًا مرموقًا كانت والدة الشيخ عبود الزمر تدعو كل يوم : «يا رب يا عبود يا ابنى أراك مثل عباس رضوان».. هكذا كانت تدعو وهى ترجو الخير لابنها، حتى صار ابنها ضابطًا فى الجيش، ثم التحق بالمخابرات الحربية، ثم دخل السجن الحربى أيضًا.
وفى السجن الحربى جاء الضابط ليدخله إحدى الزنازين وهو يقول: «هل تعلم يا شيخ عبود من الذى كان يسكن هذه الزنزانة قبل ذلك؟!
فقال: لا
فقال الضابط: إنها زنزانة عباس رضوان الوزير المعروف».
وعندها تذكر كل شريط حياته ودعاء أمه المستمر له.. وبالرغم من أن طريق الشيخ عبود الزمر كان يختلف جذريًا عن طريق عباس رضوان، فإن جزءًا كبيرًا من سيناريو حياتيهما قد تكرر.
وهذا يجعلنا دائمًا نتوقف عند قوله تعالى «وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً».. فكثيرًا ما يدعو الإنسان بشىء ظاهره حسن وخير ونعمة، وباطنه شر وسوء ونقمة.
ولذلك فأنا أوصى كل مسلم ومسلمة بألا يدعو بشىء محدد فى الدنيا، فلا يدعو أن يتقلد المنصب الفلانى، أو يتزوج فلانة، أو يدخل كلية كذا، لكن عليه بالأدعية العامة، وأعظمها وأفضلها ما هو موجود فى القرآن والسنة، فإذا أراد شيئًا معنيًا محددًا فعليه بالاستخارة، ولكن لا يدعو به تحديدًا.
ومن أعظم ما رأيته فى الشيخ عبود الزمر حينما كنت أزوره مع الشيخ كرم وآخرين بعد خروجنا أننا نكون فى غاية الحرج فقد خرجنا ولم يخرج، ونتحرج من طرق مسألة الإفراج عنه لأن محاولاتنا الكثيرة للإفراج عنه باءت بالفشل، فكان من فرط أدبه وخلقه الكريم لا يسألنا عن شىء يتعلق بالإفراج، لأنه يعلم أننا بذلنا كل جهدنا من أجل الإفراج عنه.. وقد يتصور البعض أن هذا الصبر والحلم والسكينة أمر هين وبسيط، لكنه لن يدرك قيمته وقدره إلا إذا علم بعض قصص من يعتقلون حديثًا.
فهذا ثائر غاية الثورة لأنه مكث ثلاثة أشهر ولم يخرج بعد.. وهذا يضرب عن الطعام بين الحين والآخر تذمرًا وتسخطًا وليس لمجرد ضغط على إدارة السجن فقط لأنه مكث أربعة أشهر فى السجن.. وهذا يستغرب مكثه فى السجن ستة أشهر.
والأغرب والأعجب أن هؤلاء جميعًا يقولون ذلك للشيخ عبود كل يوم، ولم يفكروا لحظة فى أنه قضى سنوات طويلة دون تسخط ولا يأس.
وكان يأتى بعض هؤلاء ليذكروا شكاواهم لنا، فيستغرب كل منا لنفاد صبرهم، وعدم استفادتهم من هذه الأشهر القليلة فى حفظ القرآن والأحاديث الشريفة أو تعلم العلم النافع، مع أن أول درس قيل لنا ممن سبقونا فى السجون «السجن القصير نعمة من الله.. أما السجن الطويل فيحتاج إلى أولى العزائم من الرجال، ولا يصبر عليه إلا القليل».
لقد ماتت والدة الشيخ عبود بعد أن طال انتظارها لابنها دون أن يخرج.. ومن المحزن والمضحك معًا أن والدته كانت لا تعرفه فى أيامها الأخيرة لتدهور صحتها وشدة مرضها حتى يعرّفها بنفسه، حتى أنها قالت له فى زيارته المنزلية الأخيرة لها وهو يغادر المنزل: أين ستذهب يا عبود؟
قال لها: أنا ذاهب إلى العمل يا أمى، فقالت له: نعم يا بنى لا تتأخر عن شغلك وعملك، وكان وقتها فى السجن.
ولم يبق اليوم للشيخ عبود سوى زوجته الوفية الشجاعة التى وقفت وراءه 30 عامًا كاملة فى نموذج نادر للتضحية والبذل والصبر حتى أصبحت نموذجًا مشرفًا للمرأة المصرية المسلمة.
إننى لا أدرى كيف يتم إلغاء قرارات العفو فى الوقت الذى يدعونا الإسلام والقرآن للعفو صباح مساء.. «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ»، «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ».
أنا أعلم أن بعض الذين حصلوا على هذا العفو أساءوا استخدامه ولم يشكروا نعمته، لكن هؤلاء قلة قليلة معروفون بالاسم، ولا أدرى كيف يعمم الأمر هكذا دون تبصر، فالتعميم كله شر.. وأنا أخبر الناس بالشيخ عبود، فهو رجل سلام وليس رجل صدام، وهو أكثر من ينادى بالسلم الآن فى الجماعة الإسلامية، ومنذ فترة طويلة، وقد ظُلم الرجل كثيرًا، فلا داعى أن نظلمه وغيره مرات ومرات.
ولا أدرى كيف تفكر الحكومة بهذا التعميم المخل والمضر مع أن الشريعة والقانون جاءت بشخصية الحكم والعقوبة «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».. ولماذا تصنع الحكومة فى كل يوم عدوًا جديدًا، وتخسر أنصارها واحدًا بعد الآخر، ولا تسعى لتحييد أحد.. إنها تصنع العداوات دون مبرر.. يا حكومة فكرى خارج الصندوق.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة