د. محمد على يوسف

عن الدروشة والمتدروشين

الجمعة، 17 أكتوبر 2014 11:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ولست أعنى بالدروشة هنا ذلك الاستعمال الدارج الذى يتندر به البعض على من لم يؤتوا قدرا من الفطنة فكانوا على درجة من السذاجة غير المتكلفة لا يملكون غيرها ولا يقدرون على سواها

ولا أعنى بالدروشة أيضا تلك الدرجة من درجات الترقى فى التطور الروحى لدى المتصوفة ممن اتخذوا باب التقشف لبلوغ مراتب الزهد والتواضع والابتعاد عن التملك المادى، لكننى أقصد به نمط المتدين المتقوقع على نفسه المنعزل عن واقعه فلا يعنى بأمور الناس ولا يعرف شيئا عن أزماتهم ولا يهتم بمشاكلهم وكأنه لا يعيش معهم على نفس الكوكب.

إنه نمط يستريح للسذاجة ويتكلفها ويأوى إلى الخواء الفكرى ويختاره ويهرب من المعرفة والفهم لا فارق يذكر عنده بين حق وباطل ولا صواب أو خطأ فهو لا يدرى – قاصدا - ما يحدث من حوله وهو على كثرة تلاوته للقرآن يكاد يعطل آيات العمل والأخذ بالأسباب، ويبتعد تماما عن مدلول آيات مكر الماكرين وكيد الخائنين وإفساد المضلين أو على أحسن تقدير يعرف مدلولات ومعانى تلك الآيات المحكمات لكنه يظن أن ليس له شأن بها وأنه غير مكلف أو مخاطب بتكليفاتها فما عليه إلا المكث فى محرابه والتبتل بعباداته وأوراده والخير سيأتيه بغير بذل ولا تعب والرزق سينهمر عليه من السماء مع المطر ومشاكل أمته ستحل بدون هم ولا اجتهاد ومكابدة.

ينسى أو يتناسى أن فى نفس القرآن الذى يقرأه "ولينصرن الله من ينصره" و"فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه" ويغفل أو يتغافل عن تكرار قوله تعالى "ثم أتبع سببا" وعن أسباب تنزل الفتح وظهور الحق والنماذج الجلية فى كتاب الله لأقوام لم يكتفوا بالتعبد ولم يركنوا إلى المحاريب مقصرين فى واجب الأخذ بالأسباب.. يتغافل صاحبنا الدرويش ومن يدروشونه ويحبون له الدروشة عن كل ذلك ويتناسى أن المؤمن كيس فطن وأنه ليس بالخب وليس الخب يخدعه ويفعل كل ذلك بحجة التفرغ للعبادة والتنسك ويكأن الذى تعبده بالصلوات والأذكار والدعاء لم يكلفه بالعمل والمجاهدة والمصابرة والبذل أو أنه خلقه بمعزل عن مخالطة باقى المخلوقين ولم يختبره ويبتليه بمعاملتهم والتأثر والتأثير فيهم
وأين ذلك من منهج أتقى الخلق لله وأشدهم له خشية وأكثرهم عبادة؟ أين تلك الشبهات الانعزالية من نهج نبينا وهو الذى ما أدخر وسعا فى العمل والدعوة والجهاد ورغم ذلك كان أعبد الناس وأخشعهم
لم يمنعه القيام والصيام والدعاء والتبتل من الاعتناء بأمر أمته ومعالجة مشاكلها والأخذ بالأسباب المادية المتوفرة لذلك ثم كان التوكل. تجده غشية غزوة بدر مستيقظا داعيا باكيا مستغيثا مبتهلا فإذا أشرق الصبح وكان اللقاء واشتد البأس وجدته فى الصفوف الأولى يحتمى به أصحابه بين غبار ساحات الوغى فإذا جن الليل من جديد آوى إلى محرابه يذرف دمع الخشية ويحويه همس مناجاة السحر واستغفار الغفار.. هكذا كان وهكذا كان الأنبياء من قبله.

لقد كان أفضل الصيام صيام نبى الله داوود عليه السلام وكان أفضل القيام قيامه بشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم وكان تسبيحه وذكره آية يردد الكون معه همساتها ويأوب، ورغم كل هذه العبادات المبهرة كان حاكما قويا عادلا وكان قاضيا يفصل بين المتخاصمين وكان مجاهدا بطلا قتل جالوت رأس الجبارين وكان نبيا داعيا للتوحيد معلما الناس الخير وإلى جوار كل ما سبق كان صانعا يأكل من عمل يده، فهل عطلته العبادة عن هذا التوازن البديع الذى يدحض شبهات الدراويش وحججهم؟
إن الركون للعزلة الاختيارية والتقوقع على الذات بحجة التعبد والتنسك هو رهبانية لا يعرفها الإسلام وما هى فى أغلب الأحيان إلا دروشة هروبية يلجأ إليها أصحاب هذا النمط وهذا الخطاب الذى لو عم الأمة ما أحق حق ولا أبطل باطل وما عرف معروف ولا أنكر منكر وما كان من تغيير أو تقدم للأفضل ولصرنا فى النهاية جميعا مجرد.. دراويش.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة