إن قضية رد الأحاديث، خاصة «رد المتن» تثير الكثير من الإشكالات، فقد خفى على الكثيرين إدراك أسس رد الأحاديث، خاصة من جهة المتن، وقد انصرف كثير من النقاد إلى نقد الأسانيد وعللها، بمعنى أنهم وجهوا اهتمامهم بنسبة كبيرة إلى مراجعة رواة الأحاديث، ولم يعطوا قضية نقد المتن نفس التركيز والجهد، وفى الحقيقة إن نقد متن الحديث لا يقل أهمية عن نقد الرواة، بل هو أخطر، فالمتن هو ما ينسب للرسول من قول أو فعل أو إقرار، وبالتالى فهو ما يبنى عليه العلماء آراءهم وفتواهم التى تؤثر فى حياة الناس، وإن الحكم بسلامة المتن يتطلب علمًا بالقرآن الكريم، وإحاطة بدلالاته، وعلمًا بشتى المرويات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها والبعض الآخر, ولذلك فإن عمل المحدثين الذين يوجهون جهودهم لمراجعة الأسانيد لا يكفى وحده لقبول الحديث، إنما لابد معه من عمل الفقهاء والأصوليين الذين يقومون بالنظر فى المتن وتحليله ونقده، وذُكر عن الإمام الغزالى المعاصر أنه قال للشيخ الألبانى وهو من المحدثين المعاصرين، رحمهما الله: « أنت تتكلم عن سند الحديث وتحكم عليه، فهذه صنعتك، أما فقه الحديث والنظر فى متنه وما يبنى عليه من أحكام فلا دراية لك به»، فقد يصح الحديث سندًا بأن يكون رواته من الثقات، ويضعف متنًًا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه.
وإن من أهم الأسباب التى تؤدى إلى رد «متن» الحديث وإن صح سنده هو مخالفته الصريحة لآيات القرآن. قال الإمام الشيرازى: «من شروط رد خبر الثقة أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة فيُعلم أنه لا أصل له أو منسوخ»، ونسب إلى الإمام أبى حنيفة رحمه الله قوله، بعد أن أكد أن الكتاب والسنة لا يتعارضان: «ردّ كل رجل يحدث عن النبى بخلاف القرآن، ليس ردًا على النبى عليه السلام ولا تكذيبًا له، ولكن ردٌ على من يُحدث عن النبى عليه السلام بالباطل، والتهمة دخلت عليه وليس على نبى الله». وقال أبويوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصارى فى معرض ردّه على الإمام الأوزاعى: «عليك من الحديث بما تعرف العامة، وإياك والشاذ منه، الرواية تزداد كثرة، ويخرج منها ما لا يُعرَف، ولا يعرفه أهل الفقه، ولا يوافق الكتاب ولا السنة، فإياك وشاذّ الحديث، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث، وما يعرفه الفقهاء، وما يوافق الكتاب والسنة، فقِس الأشياء على ذلك، فما خالف القرآن فليس عن رسول الله، فاجعل القرآن والسنة المعروفة لك إمامًا وقائدًا، واتبع ذلك وقِسْ عليه ما يرد عليك مما لم يوضح لك فى القرآن والسنة بالقرآن والسنة».
و الأمثلة على الأحاديث التى ردها العلماء لمخالفتها القرآن كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- ما عرف بحديث الغرانيق، وهى جمع غَرْنوق، وهو طائر أبيض من طيور الماء يشبه الكركى، يعلو فى طيرانه، وقد شبهت به قريش أصنامها المفضلة عندها على كل أصنام العرب: اللات، والعزى، ومُناة، لأن مقامها عند الله بزعمهم مقامٌ عال كطائر الغرنوق، وقد وردت هذه القصة فى أكثر من كتاب من كتب السيرة والتاريخ، مثل سيرة ابن إسحاق، وتهذيب ابن هشام لها، وكذلك كتاب تاريخ الطبرى، وكتاب أُسد الغابة وغيرها، وذلك على النحو التالى: « لما رأى رسول الله تولّى قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به، تمنى فى نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم فى ناد من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذ ألا يأتيه من الله شىء ينفر عنه، وتمنى ذلك، فأنزل الله سورة النجم فقرأها رسول الله حتى بلغ «أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى» فألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدّث به نفسه وتمنـّاه فقال: «تلك الغرانيق العـلى وإن شفاعتهن لترتجى»، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله فى قراءته للسورة كلها وسجد فى آخر السورة، فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من فى المجلس من المشركين، ثم تفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإن جعل لها محمد نصيبًا فنحن معه، فلما أمسى رسول الله أتاه جبرئيل فقال: ماذا صنعت؟ تلوْت على الناس ما لم آتكَ به عن الله سبحانه، وقلت ما لم أقل لك، فحزن رسول الله حزنًا شديدًا، وخاف من الله خوفًا كبيرًا، فأنزل الله آية سورة الحج رقم 52: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، وندم محمد صلى الله عليه وسلم.. فهذه القصة تخالف الكثير من آيات القرآن التى تؤكد عصمة الله للنبى عندما ينقل عنه، خاصة القرآن، ومنها قوله فى سورة النجم آية 3 / 4: «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى»، وكذلك تخالف قول الله عز وجل من سورة الحجر آية 9: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون»، فالله عز وجل هو من يحفظ القرآن، ومع حفظ الله لا يمكن أن يحدث ما ورد فى هذه القصة، ولذلك قال الإمام النووى: «وأما ما يرويه الإخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منهم شىء، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن مدح إله غير الله لا يصح أن يفعله رسول الله، ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك»، وعلى الرغم من ذلك وجدنا ابن حجر، شارح صحيح البخارى، فى كتابه «فتح البارى» قوّى قصة الغرانيق على الرغم من أن الإمام البخارى نفسه لم يرو هذه القصة، إنما فقط ذكر سجود النبى ومن معه عند تلاوة سورة النجم تأثرًا بما ورد فيها من آيات، وقد اعتمد على هذه القصة سلمان رشدى فى تسمية روايته «آيات شيطانية».
- كذلك رد الإمام مالك أحاديث لأنها تتعارض مع القرآن، ومنها ما رواه الإمام مسلم وغيره «أن النبى نهى عن أكل كل ذى مخلب من الطير»، فالمشهور فى مذهبه إباحة أكل الطيور ولو كانت ذات مخلب، وذلك استنادًا لقوله تعالى فى سورة الأنعام، آية 145: «قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
- وكذلك عندما سمعت عائشة حديث أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أنكرته وحلفت أن الرسول ما قاله، وقالت بيانًا لرفضها إياه أين منكم قول الله سبحانه وتعالى من سورة الأنعام، آية 164: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، فهى ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة.
وكذلك رد حديث «لا يُقتل مسلم فى كافر» مع صحة سنده، لأن المتن معلول بمخالفته للنص القرآنى فى سورة المائدة، آية 45 «النفس بالنفس»، ولذلك فالثابت فى الفقه الحنفى احترام النفس البشرية دون نظر إلى البياض والسواد، أو الحرية والعبودية، أو المعتقد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة