كلما أردت أن أكتب عن عبقرية عباس محمود العقاد يتهيب قلمى فى الولوج إلى سحر عالمه وفيوضاته الربانية فكيف ألج عالم أعظم كتاب الشرق قاطبة.. فمن أنا حتى أكتب عن العقاد.. وأين مثلى من مثله..
وأين أنا من هذه القمة السامقة.. حتى إذا سكنت نفسى إلى هذه المشاعر لامتنى نفسى قائلة: كيف لم أكتب حتى الآن عن عبقرية العقاد الذى ملأ الكون كله علما وأكثر الناس دفاعاً عن الإسلام ودعوته وأعظم من كتب عن الأنبياء والخلفاء والأولياء.. ولم يكتف بذلك بل كتب عن كل العباقرة العظام فى كل الأديان والملل ما داموا قد أسهموا فى خدمة أوطانهم وشعوبهم.
لقد حاسبت نفسى كثيراًَ على تقصيرى فى حق هذا العبقرى العظيم.. ولو أعاد الزمان دورته لجعلت معظم كتب العقاد مقررة على أبناء الحركة الإسلامية حيث أن فى كتبه سبقا لعشرات المفكرين والعلماء والفقهاء.. وفيها دراية عجيبة بنصوص الشريعة وقراءة متعمقة وسابقة للجميع للواقع المعاش.. مع قوة فى الحق وأنفة وعلو همة عن نفاق أحد من الخلق مهما كان.. أو مجاملة حاكم أو ذى سلطان مهما كان بأسه وجبروته.
إننى الآن أقر وأعترف أن الحركة الإسلامية المصرية خاصة والعربية عامة قد قصرت فى حق العقاد وأهملته وبخسته حقه.. ولم تحدث أبناءها يوماً عنه ولا عن دفاعه العظيم عن الإسلام فى أوقات عصيبة فى الوقت الذى تثنى الحركة فيه صباح مساء وبداع وبغير داع على بعض قادتها الحركيين الذين لم يقدموا للإسلام أو الفكر أو الفقه الإسلامى أو للأجيال القادمة جديداً فى علوم الإسلام.
لقد تأملت حالة معظم الحركات الإسلامية فلم أجد حركة واحدة فى أى قطر من أقطار الإسلام قررت كتاباً واحداً للعقاد على أبنائها رغم عظمة هذه الكتب وإشادة الجميع بها.. ولم تقرر حتى عبقرية من عبقرياته مثل عبقرية الصديق أو خالد أو محمد صلى الله عليه وسلم أو عبقرية المسيح أو عثمان «ذو النورين» أو عبقرية الإمام على بن أبى طالب أو عبقرية معاوية.. فى الوقت الذى قررت على أبنائها كتباً لبعض قادتها الحركيين أو دعاتها المبتدئين لا يتساوى أحدهم مع بعض تلاميذ العقاد مثل د/ الطناحى أو غيره.. وهذه أزمة من أزمات الحركة الإسلامية الفكرية المستعصية.
لقد درست عبقرية خالد بن الوليد فى الثانوية العامة.. ودرس من سبقونى من الطلاب عبقرية الصديق ودرس من بعدى فى الثانوية عبقرية عمر.. ثم حذفت وزارة التربية والتعليم المصرية كل العبقريات بل كل كتب العقاد من مناهج التعليم.. ووضعت مكانها كتباً لا تكاد تقارن بها من كل النواحى.
لقد ولد العقاد عبقرياً ويرجع الفضل لاكتشافه إلى الإمام محمد عبده الذى زار مدرسة ابتدائية فى أسوان كان العقاد ضمن طلابها وذلك فى عام 1896م وعرضت عليه كراسة إنشاء الطالب / عباس محمود العقاد كأحسن نموذج لكتابة تلميذ صغير فأعجب بها الإمام إعجاباً شديدا ً.. وتنبأ للعقاد وبمستقبل باهر وأنه سيكون كاتباً له شأن عظيم.. فأسعد هذا التقدير العقاد وهو طفل ورسم مستقبله كله بناء ً على هذا التقدير الساحر والنبوءة العظيمة التى سرعان ما تحققت بعد سنوات قليلة.. ليصبح العقاد كاتب الشرق كله بلا منازع وصدقت فيه مقولة من قال عنه «العقاد هو الذى أشرقت عليه الشمس قبل شروقها فى الأرض.. ولم تغرب عنه حتى الآن ولن تغرب عنه أبداً».
ولولا عبقرية العقاد ما أحب العباقرة وما حاول التشبه بهم قدر إمكانه.. فقد ظل العقاد يتتبع أخبار وآثار العباقرة فى كل مكان بصرف النظر عن أديانهم ومللهم.. فكما كتب عن عبقرية عمر كتب عن غاندى وآخرين من غير المسلمين.. وكان يقول « عندما أكتب عن الواحد منهم كأنى أكتب عن نفسى « فكان لا يكتب عن عبقرى إلا بعد أن يتقمص شخصيته ويعيش بوجدانه كله فى الأحداث التى عاشها ولا يكتب عنه أبداً إلا وهو داخل فى إهابه وعقله وفكره.. يحيا معه حياته بكل ما تشتمل عليه من لحظات قوة وضعف.. وصواب وخطأ.. وحلم وغضب.. فيقف على أسراره من داخل نفسه.. لا من مجرد أقوال صماء تنتسب إليه أو مواقف جامدة أو عابرة تحكى عنه.. لذلك يمكن أن ترى شخصية العقاد نفسها أمامك فى كل عبقرية يكتب عنها.. وكأن الشخصيتين تتحركان معا ً.
وكان العقاد لا يتحفظ فى الثناء على العبقرى الذى يكتب عنه خوفاً من الاتهام بالمبالغة طالما وجد ما يستحق الثناء والمدح.. ولكن هذا المدح لا يعطل عنده ملكه النقد الدقيق للعبقرى.. بل إن ملكة النقد العلمى الدقيق والصادق لدى العقاد تعد أقوى ملكاته.
وقد تعلم ذلك من العبقرى عمر بن الخطاب وهو لا يستنكف أن يقول لامرأة «أصابت امرأة وأخطأ عمر».. لقد انتقد زواج خالد بن الوليد من ليلى زوجه مالك بن نويرة.. وانتقد توريث معاوية للحكم لابنه يزيد.
وحينما سأله البعض لماذا لم تكتب عن عثمان بن عفان عبقرية عثمان كما كتبت عن عمر عبقرية عمر.. واخترت عنوان «عثمان ذو النورين» فأجاب إجابة رائعة تليق بصاحب الخلق والحياء العظيم عثمان بن عفان حيث قال: «لقد رأيت فى عثمان ملكاً من ملائكة البشر وليس عبقرياً فحسب».
وحينما تحدث عن الفرق بين عبقرية الصديق أبى بكر وعبقرية عمر أذهل العقول بحديثه الرائع الذى لم يسبق إليه حيث قال: أبوبكر الصديق آمن بمحمد النبى صلى الله عليه وسلم.. أما عمر فقد آمن بالنبى محمد صلى الله عليه وسلم.. أبو بكر كان يقول دوماً لحبيبه وصديق عمره محمد: صدقت.. صدقت دون براهين وأدلة.. أما عمر فقد كان يحتاج دوماً لبراهين وحجج.. لقد تعامل عمر مع الدين تعامل الفيلسوف الوقاف عند النصوص والذى يحتاج دوماً إلى الدليل الشرعى والعقلى.. حتى قال له أبوبكر الصديق يوماً «إنه رسول الله يا رجل» وقال له رسول الله يوم الحديبية حينما اعترض على الصلح «إنى رسول الله ولن يضيعنى الله».. وكان أبو بكر يقول يوم الإسراء والمعراج يوم شكك كفار قريش فى مصداقية الرحلة كلها «إنى أصدقه فيما هو أعظم من ذلك.. إنى أصدقه فى خبر السماء».
آه.. يا عقاد.. خمسون عاماً مضت على وفاتك.. وما زالت كلماتك حية تجوب الآفاق.. تهدى الخلائق.. تعلم البشر.. تذب عن رسل الله ورسالاته.. تنشر فى الدنيا كلها أنوار هداية السماء.
ورغم ذلك لم يعرف قومك قدرك.. وأعطوا للفنان فلان الراحل أو المغنى فلان أو الراقصة فلانة المساحات تلو المساحات فى الصحف والإعلام.
يا سيدى لا تحزن فقد جحدتك كل الحكومات وكل وزارات الثقافة وجحدك قومك إلا من عصم الله وهم قليل.
يا سيدى لا تحزن فأنت أكبر من هؤلاء جميعاً وأشهر منهم جميعاً رغم موتك.. فطب نفساً فى قبرك فقد أديت أمانة الكلمة على خير وجه وصدعت بالحق دون أن تخشى فى الله لومة لائم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة