وكأنى بالمصائب لا تأتى فرادى، فلا نكاد نفيق من مصيبة حتى تصيبنا أخرى، وكأن المصائب تتقاطر فى مجيئها وذهابها، حتى لا تترك فى قلوبنا فسحة لغير الأحزان. وفى كل مرة نطبب الجرح أملاً فى اندماله، فتقع المصيبة فتقُدَّ ما اندمل، ويعود النزف من جديد. بل هناك من الجروح ما اندمل على قَيْحِهِ، ونحن نظن أنه قد تم له الشفاء واكتمل، وهو ما شفى وما اندمل.
فمن كارثة حوادث القطارات والمزلقانات، إلى حوادث السيارات، إلى حوادث المستشفيات، إلى حوادث المدارس ومظاهرات الجامعات، ناهيك عن تفجيرات فى الشوارع والمؤسسات تقوم بها جماعات أكل عقلها التطرف، وحركتها دوافع الإرهاب باسم الدين، والدين منها براء.
وهنا يقفز إلى الذهن التساؤل: وما الرابط بين هذه الحوادث؟ الرابط المنطقى الظاهر أن كل هذه الحوادث تقع فى أحضان مصر المحروسة، وتصب حمم آلامها فوق رؤوس المصريين. والرابط الآخر بين هذه الحوادث هو أن معالجتها تجرى على نحو سطحى ظاهرى، يترك التقيحات الصديدية تغلى تحت السطح دون تنظيف أو تطهير، ويجرى التغلب على آلامها بالمسكنات التى لاشك أنها تخلف آثاراً جانبية مدمرة. ألا يدعونا ذلك إلى البحث فى أصل الداء، حتى يتسنى لنا وصف الدواء؟. وأصل الداء يمكن رده إلى أمرين: الأول: التعليم، والثانى: الإدارة. أما عن التعليم فله ثلاث مصادر: الأول: الأسرة، الثانى: المدرسة، الثالث: جماعة الرفاق والبيئة المحيطة.
أما عن الأسرة فما زال التعلم فيها يتم بطريق التلقين والتعليمات والأوامر، وأن من يخالف ذلك فلا ريب أنه يعد من وجهة نظر الأهل: "قليل الأدب"، أى أن الجانب الأخلاقى عنده غير مستوف بحال، ويعانى من نقص فى التربية، ومن هنا يجرى تشكيل العقل على نحو خاطئ، لأن هذا الأسلوب فى التربية لا يخلق العقلية الناقدة، القادرة على التقييم والفرز والاختيار، العقلية القادرة على اتخاذ القرارت وتحمل تبعياتها، وإنما يخلق العقلية الإتكالية التى تظل قابعة فى مكانها لا تبرحه حتى تأتيها الأوامر والتعليمات والتوجيهات ممن هو أعلى منها وأكبر، وهذا ما يتبدى على نحو فاضح ومخزى فيمن يتولى مناصب قيادية سواء وسيطة أو عليا أو حتى على مستوى الموظف الصغير. وهو تشوه يستلزم التقويم والمعالجة. وهنا يبرز دور المدرسة كمصدر من مصادر التعلم، والمدارس عندنا تقوم على التلقين والحفظ، فضلاً عن تفاهة وسطحية المناهج التى يتم تدريسها، إذ أن فلسفة التعليم فى حقيقتها لا تقوم على تستيف المعلومات والمعارف داخل العقل البشرى، لأن هذا يعد تخزيناً لا تعليماً، وتخزين المعلومات بقصد الحفظ له مكان آخر غير العقل البشرى، فالتعليم يقصد إلى تشكيل العقل وتربيته، بقصد منحه القدرة على التعلم، واكتساب المعارف، على نحو نقدى تمحيصى، قادر على الفعل والحركة، والابتكار والإبداع. عقلية تمتلك ملكة التفكير العلمى، وتمتلك أدواتها.
ومن هنا يمكن القول بأن المدرسة تكرس للخلل الذى أحدثه البيت، وتكسبه نوعاً من الحصانة الأدبية، بإتباعها نفس النهج والأدوات. وخلال ذلك يأتى دور جماعات الرفاق والبيئة المحيطة، ودورهما فى ظل مخرجات الأسرة والمدرسة ما هو إلا اجترار لما تم تلقينه من الجانبين، مضافاً إليه الرغبة فى التحلل من القيود، والتخفف من الأوامر والأحكام، والتحرر من رعب الامتحان.
هذا عن الأمر الأول فى أصل الداء، أما الأمر الثانى فى أصل الداء فهو الإدارة، والإدارة كما تعلمناها تتلخص فى خمس كلمات، هى: التخطيط، التنظيم، التنسيق، التوجيه، الرقابة، ولا تصح الإدارة ولا تقوم لها قائمة إلا بهذه الكلمات الخمس.
فهل الإدارة فى مصر لها علاقة بهذه الكلمات الخمس؟ نحن فى مصر لا نفصل فصلاً عضوياً بين الإدارة والعمل الفنى، وإنما العمل مختلط، حيث يقوم الفنى بالعمل الإدارى المرتبط بطبيعة النشاط، وهذا حال من رقص على السُلم، فلا أدرك هذا ولا أدرك ذاك، وأضاع الاثنين معاً، لأنه فى الأصل يفتقر إلى التفكير الاحترافى المتخصص فى مجال الإدارة، ومن هنا يفقد القدرة على التخطيط، فإن نجح صدفة فإنه يفتقر إلى التنظيم الدقيق، أو التنسيق المحكم، أو التوجيه الواعى، أو الرقابة الفاعلة، فإن سقط أحد العناصر الخمسة من الحسبان سقطت العملية الإدارية برمتها. ومن هنا فلا معايير موضوعية للعمل فى أى مرحلة من مراحل العملية الإدارية، وإنما الهوى والاجتهاد الشخصى، وبعض الخبرات المكتسبة من واقع المشاهدة للرؤساء فى العمل، والتى قد تكون خاطئة، وهذه أمور لا تنهض بصناعة رجل إدارة لديه القدرة على التفكير العلمى وفق الأسس والمعايير والمبادئ الإدارية المتعارف عليها أكاديمياً. وفى مثل هذه البيئة يتقدم دائما أصحاب الحظوة، والواسطة، والفهلوة، ويتأخر خطوات أصحاب الكفاءة، والفاعلية، والقدرة على الحركة فى الاتجاه الصحيح، لأن القيادات الإدارية سواء الوسطى أو العليا تخشى أن تنكشف خبيئة نفسها، ويتعرى تهافتها وخواءها. فإذا جرى الربط بين التعليم والإدارة فلابد أن نصل فى النهاية إلى النتيجة الحاصلة، فإذا أضفنا ما فعلته حقبة مبارك، من تدنى فى مستوى التعليم، إلى حد أنه أفضى إلى التسطيح والتهافت والخواء، وتدنى مستوى الإدارة إلى مستوى إدارة منظومة فساد مكتملة، لأمكن تشخيص الداء الذى تعانى منه مصر الآن، ولن يبرحك شعور أن مصر تتآمر على نفسها.
هذا هو الداء، أما الدواء فيتمثل فى إصلاح منظومة التعليم، والمنظومة الإدارية معاً، بالأدوات والآليات والتشريعات الملائمة، والنجاح فى إعمال دولة القانون على الجميع دون تمييز، فى إطار من الحرية والديمقراطية التى تعلى من شأن المواطن، وتحيله إلى عضو فاعل فى المجتمع.
صورة ارشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة