عندما يصدِّر "سعد القرش" كتابه "سبع سماوات" بأن "المصادفة" وحدها صنعت هذا الكتاب، فهذا قول يدعو للتوقف، فإن كتابا عن الرحلة يحصل على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة، فكيف تصنعه الصدفة، وهذا ربما يطرح أفكارا تتعلق بالإبداع بوجه عام وعلاقته بالتخطيط والمصادفة، لكننا هنا نحد "المصادفة" بمعناها الإيجابى الذى يعنى التلقائية، والتى معناها أن سعد القرش لم يتجول فى بلاد الله بتكليف من هيئة ما من أجل الكتابة عن الأماكن التى زارها، فيضطره الالتزام للكتابة بأن يفعلها كرها، لكنه كتب لأن الكتابة فرضت نفسها عليه بسبب حزن أو فرح أو مقارنة أو أمل أو حلم أو وجود أو إنكار.
"فى السفر أبحث عن مصر التى أحلم بها" هكذا يحدد سعد القرش "غايته" من التأمل والتطلع فى البشر أكثر من الحجر، لذا هو يخوض تجربة الرحلة ليس خفيفا وبالتالى ليس حرا تماما، فالمقارنة وجعه المستمر طوال الرحلة، حتى إن اعترف بداية بأنه ينتصر لمصر ويراها الأبهى، لكن عند قراءة الكتاب خاصة الفصل المتعلق بهولندا يجد نفسه أمام طريقتين للحياة مختلفتين، الأولى تركها خلفه فى بلاد يفكرون بعقلية أسلافهم الذين عاشوا فى الغابات ويحكمهم منطق "للجيل القادم رب يحميه"، والأخرى حرة متطورة، حيث تفاجئه ثنائية المفاهيم التى تصل لحد التناقض التام، فـ"القانون" و"المرور" مصطلحان يكتسبان دلالات مختلفة ومغايرة فى بلاد يحكمها منطق "الخيال".
لكن كتاب مثل "سبع سماوات" بلغته الشفيفة الرائقة وبخياله الفذ لا يمكن اختزاله فى مقالة أو المرور عليه بسرعة، فهو يحتوى على دوائر كبيرة، حيث يمكن تقسيمه لدائرتين كبيرتين "الخيال" فى مواجهة "الجدب العقلى"، وعلى مستوى المكان توجد دوائر "الشرق العربى والغرب العربى، وأوروبا والهند، ثم مصر".
لذا سوف نعقد للكتاب أكثر من قراءة، اليوم فقط، سوف نتوقف عند الوجع العراقى الذى يتسلل لمعظم الكتاب، حيث "شعب تحت الأرض" يتنفس الشعر" فعندما يقول سعد القرش "العراقى شاعر، وإذا لم تواته الظروف التى تفجر شاعريته أصبح سينمائيا أو روائيا أو قاطع طريق أو ديكتاتورا" فهذه جملة "مفتاحية" نقرأ من خلالها روح شعب يمتلك حضارة تمتد إلى فجر التاريخ، جملة تقرأ بلدا منذ بدأ وعينا نحن أبناء الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة على اسمه وهو مرتبط بالأحداث الجسام التى تحيط به، هذه الأحداث التى يمكن أن تحول الإنسان إلى أى شيء آخر بعيدا عن إنسانيته، ثم يفاجئك "سعد القرش" بأن أصله شاعر حتى ولو لم تواته الظروف وتحول إلى ديكتاتور، ويقارن لك بينه وبين الأردنى الذى يراك "مصارى" واقفة أمامه.
فبعد أن يحدثك سعد القرش عن روح العراق وشاعريته وأزماته وأثر الحصار الرهيب على كل شىء وعن الحكومة الفاشية التى غيبت شعبها تماما وجعلته يعيش مثل فيلم "تحت الأرض" لأمير كوستاريكا، حيث الغيبوبة المعنوية والمادية التى تفرضها الحكومة على الشعب تجد نفسك تقف أمام مشهدين صادمين فى كتابة "القرش" لا دخل للشعب العراقى فيهما، الأول: صنعته أمريكا وذلك عندما ذهب الكاتب ورفاقه لمشاهدة "ملجأ العامرية" حيث تحكى السيدة انتصار السامرائى مديرة الملجأ عن يوم "قيامة الملائكة" فى 3-2-1991، عندما ضربت أمريكا الملجأ بصاروخين لتغلق الأبواب تلقائيا ويصبح الملجأ زنزانة مظلمة وترتفع درجة الحرارة إلى 400 درجة مئوية مما أدى إلى تفحم 408 من الأطفال والأمهات..
بعد أن تنتهى من قراءة هذه الفقرة لا تستطيع أن تنتقل للفقرة التالية سوف تغمض عينيك وتتخيل ما الذى كان يشعر به سعد القرش فى هذه اللحظة، وأين كان ينظر تحديدا، هل كان يسمع صراخ الأطفال وأمهاتهم، رغم مرور أكثر من عقد على هذه الفاجعة، هل شعر بارتفاع درجة حرارته بينما كانت مديرة الملجأ تقص هذه المأساة التى هى واحدة من ملايين المآسى التى عاشها شعب العراق.
المشهد الثانى يكمن فى الهامش الذى أرفقه سعد القرش فى نهاية هذا الفصل، عندما يحدثك عن أصدقائه العراقيين الذين التقاهم فى هذه الرحلة ونشر نصوصهم فى مجلة "سطور" بعد عودته، فتجدهم قد دفعوا ثمن حبهم للعراق، حيث ماتوا.. وبطريقة جنائزية مكثفة، ينقل سعد القرش حال العراق بعد الاحتلال الأمريكى فيقول: "من بين ما أحتفظ به من رسائل خطية، سطورا أرسلتها إلىَّ أطوار بهجت السامرائى، التى استشهدت يوم 22فبراير 2006... أما الشاعر حاتم حسام الدين الذى توفى فى ظروف لا أعرفها، ولم ير ديوانه "كتاب السدى".. كما قتل أحمد آدم "على الهوية"..
وفى النهاية كتب سعد القرش "على الراحلين السلام"، فى كتاب "سبع سماوات" سعى سعد القرش الباحث عن الخيال الذى يرسم الأفق من جديد إلى أن يبدأ بالوجع العراقى حتى تصبح أرواحنا ممتلئة بالشجن ونسير فى باقى طرق الكتاب ونحن مثقلين بذنوبنا تجاه العراق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة