لا أتذكر أن رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عاطف صدقى كان لا يجلس فى مكتبه، ويقضى يومه فى الجولات الميدانية، ومع ذلك نجح الرجل فى إصلاح هياكل الاقتصاد المصرى المختلة، وروض الدولار وكبح جماح التضخم، وأجرى جراحات دقيقة لاقتصاد كان مريضا دون أن تسيل نقطة دماء، واعتبره أنجح رئيس وزراء فى تاريخ مصر، وأقول ذلك تمهيدا لإلقاء الضوء على جولات المهندس إبراهيم محلب الميدانية التى تستغرق الليل والنهار.
أولا: مهمة رئيس الوزراء هى وضع برنامج الحكومة والإشراف على تنفيذه، بمعنى أنه المايسترو الذى يقود الفرقة، وليس من يقوم بالعزف، ومحلب يقوم بالمهمتين معا، ويضع أعباء كبيرة على كاهله، قد تحول دون القيام بمهمة الإشراف الصعبة على الوجه الأكمل، وأتصور أنه لا يجد وقتا ليجلس فى مكتبه يفكر ويناقش ويدرس ويستعرض الخطط والجداول والخرائط.
ثانيا: الجولات الميدانية إذا لم تكن محسوبة بدقة ووراءها أهداف محددة تفقد قيمتها وجدواها، وليس أدل على ذلك من واقعة الغش التى قامت بها وزارة الصحة عندما أحضرت جهازاً طبياً من الغردقة إلى مستشفى الساحل ليكون فى استقبال رئيس الوزراء، مثلما أحضروا كل الأسماك من البحيرات أيام الرئيس السادات قبل أن يفتتح مزرعة سمكية جديدة، ويستحيل أن يكون معيار النجاح هو ذهاب المسؤول إلى أى موقع ليقيس بنفسه حجم الخدمات المقدمة للجمهور، لأن التحسن يستغرق وقت الزيارة فقط، وأمام الكاميرات والفلاشات والصحفيين والمصورين، وبعدها تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه.
ثالثاً: مازالت بعض الجهات الحكومية تلعب لعبتها القديمة بإعادة افتتاح مشروعات سبق افتتاحها أو تنسب لنفسها مشروعات غيرها، مما يضيع رصيد الثقة فى إنجازات الحكومة، وعلى رئيس الوزراء ألا يذهب لافتتاح أى مشروع إلا إذا كان جديدا ونتيجة جهود حكومته وليس استلابا من الماضى أو إعادة دهان الطلاءات والجدران، وأن يتأكد بنفسه أنه لا يعيد إنتاج مشروعات سبق افتتاحها.
رابعا: أتمنى من رئيس الوزراء أن يعمل بطريقة المنظومة المتكاملة وليس الأداء الفردى أو الجزر المنعزلة، فقضية الأسعار وتوفير السلع - مثلا - تحتاج منظومة من ست وزارات على الأقل تعمل يدا واحدة وليس وزير التموين وحده كما هو الآن الذى يتصدر المشهد.. وزارات الصناعة والتجارة والاستثمار والزراعة وغيرها، وهى الجهات المسؤولة عن الإنتاج المحلى والاستيراد، وأن يكون لكل وزارة دور محدد فى توفير احتياجات المواطنين.
مجمل القول - وهذا رأيى - أن رئيس الوزراء ليس مطلوبا منه أن يجرى جرى الوحوش من أسوان إلى الإسكندرية، بل أن يوازن بين الجلوس فى مكتبه والجولات الميدانية، وأن يكون لدى الحكومة برنامج محدد وخطط واضحة للتعامل مع جميع المشاكل والتحديات، وأن تكون الزيارات الميدانية وسيلة وليست غاية، ومرتبطة بمراقبة مراحل تنفيذ مشروعات محددة بعينها تلتزم بتنفيذها من خلال جدول زمنى.
قد يقول قائل: «لو قعد فى مكتبه مش عاجبهم ولو نزل مش عاجبهم»، ولكن الأمر ليس كذلك، وسوف يفرح الناس بزيارة رئيس الوزراء إذا ذهب لافتتاح محطة مياه أو مخبز آلى أو مدرسة جديدة أو مشروعات مشابهة تعهدت حكومته بإنجازها فى وقت محدد، وتحمل الخير لجموع المواطنين، ونفس الأمر بالنسبة للزيارات الأخرى كالمستشفيات ومواقع الإنتاج، وأن ترتبط بخدمات جديدة مثل أجهزة الغسيل الكلوى أو العلاج الكيماوى وغيرها من الأمراض المتفتشية ويعانى منها المرضى الأمرين.. أما أن يذهب رئيس الوزراء للتفتيش وحوله كوكبة من الوزراء، ثم ينتهى مفعول الزيارة عندما يركب سيارته ويغادر، فهذا شأن وكلاء الوزارة وصغار المسؤولين.