من هو الجمهور؟ تلك كلمة فضفاضة ليس لها أول من آخر ولا لها مالكة كما يقال, ورغم هذا كلنا نستخدمها بأريحية شديدة، دون أن يغمض لنا جفن, أنا جمهور وحضرتك جمهور والأخت القابعة هناك أيضاً جمهور، ومن نعرفهم ولا نعرفهم وهم أكثر أيضاً جمهور, ولنترك الكلمة الفضفاضة وهى الجمهور لندخل فى الموضوع، فقد كنت ضيفة فى أحد البرامج مع مجموعة من المذيعين المحترفين، وكان سؤال الحلقة الأهم والأول، هو ماذا يريد الجمهور من الإعلام؟ ولست هنا لأنقل تفاصيل نقاش الحلقة لمن لم يشاهدها، ولكنى أطرح وجهة النظر التى لم يتسع لها الوقت للنقاش حولها، علنا نستطيع فى الصحافة المكتوبة أن نكون أكثر تعقلاً وروية من هؤلاء الذين يجلسون فى مواجهة الضوء، فتزيغ أبصارهم كثيراً، ويظنون أنهم يعرفون الجمهور ويملكون الحقيقة، لأن هناك خمسة أو عشرة اتصالات تأتى إليهم، وهم أمام الكاميرات تحييهم وتغازلهم ببعض الكلمات مثل و«النبى انتى قمر» أو «والله انت راجل وطنى» أو «برنامجك برنامج عظيم», ففى مقابل هذا الجمهور هناك آلاف أخرى من الجمهور، تقول لك أو لكِ أى لنفس المذيعة أو المذيع ده «انت وحشة جداً» أو «هذا مذيع يعمل ضد الوطن، رغم ما يقوله» أو «ده أنت برنامج فاشل جداً»، إذن هل يصح أن يسأل أهل الإعلام ماذا يريد الجمهور، أم أنه يجب عليهم أن يطرحوا على أنفسهم سؤالا آخر، وهو ماذا يجب أن نقدم للجمهور، وما هو واجبنا تجاه مهنتنا وتجاه جمهور يشاهدنا، ويتأثر بعضهم مما ننقله لهم, ولكن المشكلة أن أغلب العاملين فى الإعلام لا يسألون أنفسهم هذا السؤال, ولكنهم يكتفون بسؤال ماذا يريد الجمهور، وحتى ربما لا يسألون أنفسهم على الإطلاق, بل يكتفون بأن يقولوا الجمهور عايز كده.
ولكنى أؤكد لهم وأقسم بالنعمة والمصحف والإنجيل أن الجمهور مش عايز كده خالص، فهل هناك جمهور يريد أن يعود إلى بيته كل ليلة بعد يوم شاق يعيشه القاصى والدانى، يواجه فيه ما يواجهه من أهوال فى الشوارع والمصلحة الحكومية وغير الحكومية والمواصلات العامة والخاصة والطرق القاتلة، والأخبار المؤلمة والتفجيرات القاتلة، ثم يجد نفس هذا الجمهور أمامه مذيعا يصرخ فيهم، أو يأتى بمن يصرخ فيهم أو يتقاتلون بالكلمات، وأحياناً باللكمات, قد يكون هناك جمهور لا يرى غضاضة فى هذا الأمر، بل يستمتع بالعراك وولعة البلد، ولكن هذا جمهور يشبه جماهير حلبات المصارعة حتى الموت فى روما القديمة فهل توجه الإعلام الحالى فى غالبيته، يريد أن يصنع شعباً من الذين يستمتعون بمشاهدة الجرائم، رغم أنهم لا يغمسون أيديهم فى الدم.
إعلامنا المرئى أغلبه قبيح وأبيح وقاصر التفكير، ويعتمد على عبارة الجمهور عايز كده، ومثل هذا الإعلام مهما كان توجهه لا يساعد فى بناء أمة، بل يهدمها بكل ما فيها, فما بالنا ونحن أمة مهدمة بفعل أحداث جسام.
الجرافيتى بين القبح والجمال:
يعتقد أن الجرافيتى ممارسة عرفها الفراعنة والرومان والإغريق منذ القدم, وهو الرسم على الحوائط بحرية، ودونما ترتيب، وقد عُرف الجرافيتى الحديث بداية فى مدينة نيويورك مرتبطاً بموسيقى الهيب هوب, وعادة ما يتم استخدامه للتعبير عن التغيرات السياسية والاجتماعية فى المجتمعات، ومنذ أسابيع لاحقت شرطة لوس أنجيلوس فتاة أسمها كاس نوكت، وقدمتها للمحاكمة، لأنها ترسم الجرافيتى على حوائط الحدائق العامة مما يعد جريمة فيدرالية، وهى بذلك سيتم تقديمها للمحاكمة لأنها تشوه وتدمر الممتلكات العامة، وهذا قد يصل بكاس نوكت للسجن والغرامة، لأن الفنانين من حقهم عرض أعمالهم، ولكن فى أماكن مخصصة لذلك وليس بهذه العشوائية, هكذا صرحت أجهزة الشرطة فى تلك الولاية.
هذا عن أمريكا، أما فى مصر، فإن كل شىء مباح، وكل الحوائط من حق أى مدرس خصوصى أو دار للأيتام أو شتيمة أو رسم فتاة بحجاب يحذرنا من النار، أو تصوير وجه لشهيد بشكل قبيح، كما هو موجود على حوائط مدخل نقابة الصحفيين، ليس كل جرافيتى فنا، وليس كل رسم لشهيد يجب أن نقف أمامه ولا نقول إنه عشوائية، شهداء الصحافة وغيرهم يستحقون التكريم وإبقاء صورتهم ليتعرف عليها أجيال، وحتى بعض وقائع الثورة تستحق أن تُرسم فى أماكنها، ولكن ليس كما هى مرسومة على حائط مبنى الجامعة الأمريكية القديم المطل على ميدان التحرير.
الجرافيتى قد يحمل كثيرا من الجمال كما نراه على بيوت الفلاحين فى النوبة، أو حاج عائد من الأراضى الحجازية، وقد يحمل كثيرا من القبح كما نراه على مدخل نقابة الصحفيين. لماذا لا يقرر محافظ القاهرة دعوة شباب يجيدون رسم الجرافيتى ليوثقوا لبعض أحداث الثورة، ولكن بصورة غير عشوائية، ولماذا لا يطلب نقيب الصحفيين من شباب الصحفيين أو كبارهم رسم جرافيتى على حوائط مدخل النقابة، ولكن بفن وليس بعشوائية ما هو موجود. حوائط مدن مصر من شرقها لغربها وشمالها لجنوبها مشاع لأى عابر سبيل، يريد أن يقول أو يكتب أو يرسم أى شىء، وإذا كانت أمريكا بلد الحريات المزعومة تجرم العشوائية، فما بالنا نسبح فيها ولا نريد أن نهجرها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة