لا ينقضى يوم إلا وتصدمنا الأخبار بالحوادث المؤلمة التى وقعت نتيجة الإهمال، أو ما يسمى جرائم الإهمال، هذه الحوادث فى مجملها وصلت إلى درجة الإضرار بالأرواح، علاوة على الأضرار التى تلحق بالممتلكات العامة منها والخاصة والمؤسسات وغيرها، وهذه الحوادث المؤلمة تكون سببًا فى النزيف المستمر، نزيف الدماء ونزيف الأموال، والكاسب فيها واحد ومعروف بعينه وهو الإهمال.
فالأمر وصل إلى حد الظاهرة المرضية، التى تحتم على الجميع البحث عن الأسباب أولاً التى أدت إلى هذا الاستهتار الذى أوصلنا إلى هذه الدرجة من الإهمال، ثم بعدها نبحث عن أسباب العلاج، بالإضافة إلى ضرورة وجود قانون يجرم الإهمال ويعاقب عليه، خاصة بعدما وصل الأمر إلى إزهاق الأرواح، والانحراف عن العمل الموكول إلى الشخص تنفيذه، وكذا التقصير فيه والتكاسل عن القيام به، وعدم الشعور بالمسؤولية وكلها مرادفات للإهمال، الذى يسبب الضرر بالغير ويصطدم مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية التى نصت على حفظ الأديان الأنفس والأموال والأعراض.
والخطاب الدينى بجانب دوره الدعوى الإرشادى هو خطاب تصحيحى، يحث الناس على القيام بما أمر به الشرع والانتهاء عما نهى عنه، ولما كانت الشريعة الإسلامية حريصة على ضمان مصالح العباد فى العاجل والآجل، فقد ورد قول النبى صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، ولم يقتصر النفى فى الحديث على نفى الضرر فى الشريعة؛ بل أتبعه بالنهى عن إضرار العباد بعضهم لبعض، فالمكلف منهى عن كل فعل يترتب عليه إضرار الآخرين، سواء قصد صاحبه الإضرار أم لم يقصد، وهذا هو ما نعنى به فقه المسؤولية، فالتزام المرء المسؤولية يدفع عن نفسه الضرر ويكف ضرره عن غيره، وهذا أصل عظيم من أصول الدين؛ فإن الفرد إذا التزم بصيانة حقوق غيره وعدم الإضرار بها، فإن من شأن ذلك أن تقل المنازعات بين الناس، فينشأ المجتمع على أساس من الاحترام المتبادل بين أفراده، وهذا البيان يقع على القائمين بالخطاب الدينى فى توعية الناس وإرشادهم إلى ضرورة تحمل المسؤولية؛ لأنه لو تخلى كل أحد عن العمل بهذا المبدأ، دون أى اعتبار للآخرين، وقتها تحدث الكارثة، وتشيع الأنانية المدمرة، وهذا ما جاء الإسلام بإزالته والقضاء عليه.
ولقد اهتمّ القرآن الكريم فى بيان أن تحقق مصلحة الإنسان وفوزه برضا الله تعالى مرتبط بقيامه بمسؤوليته كخليفة فى الأرض، فالخلافة المسؤولة هى الأساس الذى يجب على الإنسان أن يعيه تمام الوعي، ويدرك العوامل التى تساعده على تحقيقها، لأن أبرز الأدواء التى عانى منها المسلمون هى تنصلهم من مسؤولياتهم، وهذا أمر مرتبط بتراجع مكانتهم، وفرض عليهم إعادة تفعيل هذه المسؤولية، وذلك من خلال التذكير بأهم العوامل التى تدفعهم إلى النهوض بالمسؤولية للتحرر من كل أدواء الأهمال.
وعليه فإن الخطاب الدينى لا بد أن يولى هذه النقطة مزيدًا من الأهمية لأنها مرتبطة بمصالح العباد، فعلى الدعاة أن يبينوا للناس أهمية القيام بالمسؤولية، بأن على الطبيب أن يقوم بدوره على أكمل وجه فى تطبيب الناس وتخفيف أوجاعهم وآلامهم، والمعلم أن يعْلم أن ما يقوم به إنما هو رسالة عظيمة يؤديها لإعداد ناشئة يعود صلاحهم على الأمة وعلى أنفسهم، وعلى الصانع أن يتحمل مسؤوليته فى عمله ويتقنه أيما إتقان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، وعلى رب الأسرة أن يقوم بدوره تجاه أسرته، وغيرها من كل شرائح الأمة، امتثالا لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع فى أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع فى مال سيده ومسؤول عن رعيته» قال ابن عمر: وحسبت أن قد قال «والرجل راع فى مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته».
وهنا لا بد أن يبين الخطاب الدينى أن المسؤولية تعنى تحمّل القيام بالأعمال والمهام ابتداء وتحمّل تبعات هذه الأعمال نتيجة؛ وهى كذلك وعى ينتج المبادرة إلى القيام بالمهام والأعمال بروح مخلصة وفى إتقان وتفان.
والمسؤولية تقع فى حلقات متشابكة يكمل بعضها بعضًا، والإنسان الفرد هو محور هذه الحلقات كلها، فالفرد مسؤول عن نفسه، والأسرة مسؤولة عن تهيئة المناخ الملائم لتنشئة أفراد صالحين، وفعَّالين فى المجتمع، والمجتمع بمؤسساته مسؤول على رعاية مصالح أفراده وأمته والارتقاء بأحوالهم.
وليعلم المرء أن الله تعالى يكافئ من يقوم بعمله ويتحمل مسؤوليته على أكمل وجه، كما يعاقب من يتخلى عن هذه المسؤولية التى خلق لأجلها، فكم من أمة فقدت مصداقيتها لأنها لم تضطلع برسالتها، وكم ارتقت أمم أخذت بأسباب الشهود الحضارى، والله تعالى قد خلق الإنسان على الأرض ليعمرها ويكون خليفة فيها لا ليفسدها، ولذلك كان على الإنسان أن يكون أكثر وعيا بما يصلح هذه الحياة وبما يفسدها، لأن قلة الوعى فى هذا الأمر باعثة على تبديد الطاقات وعدم توجيهها الوجهة الصحيحة التى تثمر الحياة الطيبة.
ولقد رغَّب الله تعالى فى كتابه الكريم فى طيب الحياة لمن يعمل صالحًا مضطلعًا بمسؤوليته فقال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ»، بل بشره أيضًا بالفوز والصلاح إن أحسن القيام بمسؤوليته؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ولأنه يعتبر مصير الإنسان فى الآخرة مرتبط بدوره فى الدنيا: «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ اَوُ اُنثَى وَهُوَ مُومِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ»؛ وهذا أمر يحفز المرء على فعل الخير فى الدنيا بإصلاحها وإنمائها والقيام بمسؤوليته على أكمل وجه.
فلو أن الخطاب الدينى بيَّن للأمة أن قيام المرء بمسؤوليته فى عمله لا يقف على الدنيا بل هو امتداد للآخرة؛ لأحسن الناس العمل، ولما رأينا مثل هذه النماذج من الإهمال التى تصدمنا ليل نهار، ولحرص الناس على ما ينفعهم وينفع غيرهم أشد من حرصهم على تنصلهم من مسؤولياتهم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة