فى مرحلة التعليم الابتدائى أتذكر أن المدارس فى مدينتى دسوق بمحافظة كفر الشيخ كانت تخصص وقتا من حصص الدراسة للذهاب إلى قصر الثقافة بالمدينة وكان وقتها يطل على نهر النيل – تم نقله الآن إلى مركز الشباب وتحول إلى مكان مهجور - وكان الهدف هو مشاركة الطلاب الصغار فى أنشطة المركز من موسيقى ورسم وتمثيل وفنون يدوية وغيرها ومع الوقت ارتبطنا بأنشطة قصر الثقافة بالمدينة إلى ما بعد منتصف السبعينيات بقليل وتكونت فرقة مسرحية تابعة للقصر بطلها الفنان الصديق علاء مرسى. وكثير من طلبة المدارس الابتدائية التحقوا بأنشطة قصر الثقافة وبرزت مواهبهم فى الرسم والموسيقى والتمثيل إلى جانب المحاضرات والندوات التى كانت تنظم داخله وساهمت بشكل كبير فى تشكيل الوعى الوطنى والتنوير والارتقاء بالوجدان.
تدريجيا اختفى قصر الثقافة من حياتنا ولم يتبق سوى الفرقة المسرحية التى عانت قلة الإمكانات حتى اختفت هى الأخرى لتترك الساحة لشيوخ النكد الذين احتلوا الزوايا والمساجد الصغيرة مع منتصف السبعينيات وبدأوا فى بث أفكارهم الغريبة عن طبيعة الشخصية المصرية والمجتمع المصرى الذى كان خارجا للتو من مرحلة الستينيات وتظلله بقايا أفكارها وسلوكياتها.
التحول من قصر الثقافة إلى الزوايا والمساجد الصغيرة بعيدا عن سيطرة الدولة كان بداية لمرحلة تغييب الوعى لأجيال قادمة تبنت أفكار هؤلاء الظلاميين الذين استغلوا تصالح الدولة فى زمن السادات مع تيار الإسلام السياسى لمواجهة التيار القومى واليسارى الذى كرهه السادات.
المسافة من «القصر» إلى «الزاوية» هى ذاتها المسافة التى انحدر فيها كل شىء فى مصر اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وظهرت مفاهيم الفهلوة والاعتماد على «الدراع» فى الحصول على المكاسب بالقوة بعيدا عن النظام والقانون ودون انتظار للدولة. وبفعل فاعل اختفى دور قصور الثقافة بأهدافها فى خلق الوعى الصحيح بقضايا الوطن وانزوى تأثير الثقافة الجماهيرية التى شاهدنا من خلالها كلاسيكيات السينما المصرية فى مساحات الفضاء وعلى الجدران فى القرى والمدن خارج القاهرة، ولم يخل لنا سوى وجوه كئيبة مكفهرة تبث سموم أفكار شاذة.
التحدى الذى كنا نأمل أن يواجهه الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة أن يعيد لقصور الثقافة - 550 قصرا فى مصر- والثقافة الجماهيرية دورها التنويرى فى نشر الوعى بآليات العصر وأدواته ووسائله حتى نعيد العلاقة المفقودة بين الدولة بأذرعها الثقافية والمواطنين، خاصة الأجيال الصغيرة وإعادة الوعى المفقود لدى المصريين طوال 40 عاما.