«1»
من أنت لتنصح الرئيس أو تذكره بما نسى أو غفل عنه؟!.
فى الكتب القديمة يقول الفقهاء إن الدين النصيحة، وفى فضائيات هذا الزمن يقول الراغبون فى نفاق السلطان، النصيحة من الممنوعات، مثلها مثل المخدرات، أو أشد
يروى الإمام مسلم عن تميم الدارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثا , قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم».
وتروى الصحف عن رموز السلطة، ونجوم إعلام السلطة، أن النصيحة للحاكم لا تجوز، هى فعل يعاقب مرتكبه بالاتهام بالخيانة والخوض فى شرفه وعرضه، وسبب يتيح للمذيعين والمحامين ملء أوقات فراغهم بتقديم البلاغات ضده، والتحريض على ضربه وسجنه.
الآن يجب أن تخاف، الخوف واجب فى وطن يصنف النصيحة للحاكم ضمن قوائم المحظورات، والممنوعات.
«2»
خالد أبوالنجا كان سطحيا أكثر من اللازم فى تصريحاته السياسية الأخيرة، ولكنه لم يفعل سوى تقديم النصيحة، لا تفرطوا فى التعامل الأمنى مع القضايا السياسية، فعلها من قبلكم فخرج الناس ضدهم.
فعل هذا وفعلها من قبله عدد من الشباب والكتاب والسياسيين، ولم تجد نصيحتهم صدى سوى أنها ارتدت إلى صدورهم فى صورة اتهامات بالتخوين والعمالة، وكأن النصيحة فعل حرام، وكل المطلوب هو الضرب على الدفوف، والتغزل فى أى خطوة رسمية حتى ولو كانت نحو حافة بركان، المهم أن يرفع الكل شعار «كله تمام طبقا لتوجيهات سعادتك يافندم».
من مئات السنين فعلوها، رفضوا النصيحة وقتلوا صاحبها، ولكنهم عادوا لتطبيقها مرغمين، فهموا أن الهوى الشخصى لا مكان له وقت الحديث عن مصلحة الأوطان، ليس مهما أن تنظر إلى مصدر النصيحة الموجهة للرئيس، بقدر مايهم أن تنظر للنصيحة نفسها، وتعلم أن بدونها يسقط زعماء وتنهار بلدان.
«3»
فى زمن مختلف، لكن يتطابق بعض من مشاكله، ويصلح بعض من نصائحه لاستعدال المعوج من أمور مصرية أصيلة نعانى بسببها الآن، كتب عبدالله ابن المقفع رسالة للخليفة أبوجعفر المنصور أسماها « رسالة الصحابة»، والمقصود بالصحابة هنا بطانة الخليفة وحاشيته ورجاله.
فى رسالته وجه ابن المقفع نقدا للخليفة بسبب تقريب أوغاد الناس لعرشه، مما سبب حرجا لخيار الناس وأبعدهم عنه، ونصح الخليفة بأن يختار أصحابه وبطانته، لأنهم زينة مجلسه، وأعوانه على رأيه وأيضا موضع كرامته، وحذر ابن المقفع فى رسالته من نفوذ العسكريين، أو نفوذ المقربين من الخليفة، مطالبا بتحجيمه ومراقبته، وضرورة تحديد العلاقة بين المسؤولين وعامة الناس، وطلب من الخليفة أن يقوم بعزل الضعيف الذى لا يستطيع القيام بعمله، وكان للقضاة نصيب كبير من النقد، بسبب فوضى الأحكام، وتناقض الآراء فى القضية الواحدة، وطالب ابن المقفع من الخليفة بضرورة وجود قواعد ملزمة للقضاة حتى لا يحكم كل منهم وفقا لأهوائه ولآرائه الخاصة به.
ثم احتوى الجزء الثانى من رسالة ابن المقفع للحاكم على توضيح لطبيعة الطاعة، مؤكدا على أن العقد بين الأمة والإمام متى خرج عنه لا طاعة له فى أعناقهم، وينبغى ألا يتخذ من عقد الإمامة وسيلة لتفضيل نفسه أو أهل بيته عن بقية الناس، فهو مثل بقية الناس، وفى نهاية رسالته نصح ابن المقفع الحاكم أن يكون صاحب نجدة ومشورة، وأن يكون شريفا لا يفسد نفسه أو غيرها، وأن يتفهم أن إصلاح أحوال الرعية لا يأتى من أسفل بل من أعلى من الحاكم.
«4»
الزمن يكرر نفسه، كما لو أن كاتبه يستخدم الكثير من أوراق الكربون للنسخ، وماذكره ابن المقفع هنا يصلح بشكل أو بآخر كنصائح هامة يجب أن تسمعها السلطة الحاكمة فى مصر.
نحن فى حاجة إلى إعادة تجديد النخبة، فى حاجة إلى قرار رئاسى يبعد الأشرار عن دائرة الحكم، لكى لا يجد الأخيار حرجا فى التقدم لخدمة هذا الوطن، نحن فى حاجة إلى عزل الضعيف واعتماد الكفاءة معيارا وحيدا للاختيار، والحد من نفوذ من ظنوا أنهم رجال الرئيس.
كل نصائح ابن المقفع تصلح للزمن الحالى حتى وإن لم يكن حاكم الآن هو ح
اكم الماضى، أو لم تكن ظروف الآن كما ظروف الماضى، ولكن تبقى المشكلة الوحيدة المتكررة فى هؤلاء الذين رأوا نصائح المقفع خيانة، وتهمة تستدعى قتله، ونسختهم المحدثة التى ترى الآن كل صاحب نصيحة نقدية للسلطة خائنا وعميلا.
«5»
بعضهم سأل ابن المقفع عن سر إصراره على نصيحة الحاكم فرد قائلا: «صاحب الرأى يجب أن يذكر ويخبر أولى الأمر بما يراه فى مصلحة الأمة من آراء، قد يكون لها أثر فى الإصلاح»
النصيحة واجب وليست خيانة.. تلك هى الخلاصة
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة