الانتحار وإنهاء الحياة مسألة شديدة التعقيد، فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى لكى نعيش ونعمر ويختبر قدرتنا على الصبر على الحياة، فهو سبحانه من قال «لقد خلقنا الإنسان فى كبد»، صدق الله العظيم. أى أنه منذ الميلاد فى حالة من مكابدة العيش، والطبيعى والمنطقى أنه مؤهل لهذه المكابدة، ولكن هناك حالات لا يستطيع معها البشر الاستمرار والصبر على ما يعرفون، فيقررون أن الذهاب إلى المجهول ربما أرحم وأقل وطأة مما هم فيه من معاناة، إنهاء حياة الإنسان بيديه كفر فى كل الأديان السماوية، ولكن لا يمكن لنا نحن البشر بعلمنا المحدود أن نقرر ما هى الحالة العقلية التى أوصلت المنتحر للانتحار، وبالتالى فهل سيكون مسؤولاً عن انتحاره أم أنه ربما فقد عقله الإنسانى الرشيد وبالتالى صار غير مسؤول عن أعماله.
هذه مقدمة كان لابد منها قبل أن أعرج إلى حكاية زينب المهدى الفتاة العشرينية التى أنهت حياتها بنفسها قبل أيام، لكى أؤكد أننى لا أكتب ما أكتب لكى أتهم أو أبرئ تلك الفتاة الصغيرة من الكفر، ولا أكتب ما أكتب لأقيم مسلك فتاة صغيرة رحلت ولن تعود، فليس هذا هو همى، ولا يجب أن يكون هم أحد فينا، ولكن يجب أن يكون همنا جميعاً هو بعض مما ربما دفع تلك الفتاة الغضة أن تنهى حياتها بمأساة.
الانتحار حالة فردية ولكنها بالتأكيد مؤشر لحالة عامة يجب أن نتوقف عندها، أدرك تماماً أن زينب وهى الآن فى كنف خالقها يتم استغلالها من الأحياء أسوأ استغلال، يستغلها الإخوان ليقولوا لشبابهم تلك هى نهاية من يتركنا ويسلك غير مسلكنا، أما أعداء الإخوان وهم كثر على اختلاف أسباب العداوة فهم أيضاً يستغلون موت زينب ويقولون ها هى نهاية من يرتبط بالجماعة، موت زينب كان وسيظل وسيلة يستغلها من يتاجرون بالموت وهم كثر.
أما موت زينب المهدى عندى فهو سبب لكى نتوقف أمام ما هو أكثر أهمية من حالة فردية أو مكايدات سياسية تافهة، ولكى نستطيع أن نستنبط النتائج لابد من قراءة المعطيات، زينب كما عرفت عنها فتاة عشرينية من أسرة متوسطة أو ربما أقل درست فى جامعة الأزهر دراسات إسلامية، ثم ارتبطت بجماعة الإخوان المسلمين، الجماعة التى رفعت شعار الإسلام هو الحل، فهل كان هناك بديل لزينب عن الارتباط بمثل هذه الجماعة؟! لا أظن، فالمجتمع المصرى أغلق مسامه كما السياسة والدين وكل المجالات فصار مجتمعا عجوزا، تجاعيد وجهه تطرد صفاء شبابه، وفقر حال الكثيرين يدفعهم للتمسك بأهداب قشور الدين وأكبر قشوره أن الإسلام هو الحل، وغالباً فقد أرادت زينب حلاً فذهبت لمن لديهم كل الحل، وبالتأكيد أرادت زينب أن تتعلم أكثر عما قالوا لها إن فيه كل الحل، فالتحقت بجامعة الأزهر قسم الدراسات الإسلامية، فهل أخطأت الفتاة الصغيرة.. أبداً إنها لم تخطئ ولكن الخطأ والخطيئة جاءا ممن حولها ومن كل مسؤول من هؤلاء الذين قالوا إن لديهم الحل إذا حكموا، فإذا بهم يحكمون فتنكشف الخدعة، وإذا بالذى درسته فى الأزهر لم يكن ليسلحها بعلم حقيقى صحيح، وأغلبنا يعرف أن مناهج الأزهر أصابها العطن ربما أكثر مما أصاب مصر فى كل تعليم. هل كانت زينب تستطيع أن تقدم بلاغاً وتطلب محاكمة كل هؤلاء؟ لا، فالقانون فى مصر مافيهوش زينب.
ثم كانت ثورة يناير وما بعدها كاشفة فاضحة للسياسة والاقتصاد والتعليم والنخبة، وعلى قدر ما حملت الأمل لكثيرين جاء الإحباط على أرض الواقع، وكانت زينب من بين هؤلاء الذين تملكهم الإحباط يوماً بعد يوم ولكنها ظلت تتمسك بأهداب الأمل، وظنت أن عبدالمنعم أبوالفتوح وارتباطها به إحياء للأمل، ولم يكن الرجل ولا ما يمثله إلا سرابا آخر اصطدمت بواقعه زينب، فهل كانت زينب تستطيع أن تطلب محاكمة هؤلاء؟ أبداً لأن القانون فى مصر مافيهوش زينب. كل ذلك دفع الفتاة الصغيرة الحالمة إلى الضفة الأخرى من النهر، خلعت الحجاب الذى كان يشير ظاهرياً لمن تكون، وأطلقت شعرها، فراح آخرون يجلدونها لأننا مجتمع حشر رخم يتدخل فيما لا يعنيه فى أكثر العلاقات حميمية وخاصة علاقة الإنسان بربه، فهل كانت زينب تستطيع أن تسجن هؤلاء؟ أبداً لأن فى مصر القانون مافيهوش زينب.
يقول أصدقاء زينب إنها تطرفت فى اتجاه آخر عما ألفوه فيها وكانت تكتب على حسابها أنها لديها كثير من الأسئلة لا تجد من يجيب عليها، فلم تكن الأم التى رأينا صورها تبكى موجودة، ولا أب، فالفتاة تعيش وحيدة، وليس هناك من وظيفة تستوعب طاقتها وقدراتها، وليس هناك من مجتمع ثقافى أو إعلامى أو حتى إنسانى يستطيع أن يستوعبها لأنه ليس مؤهلا، فهل كانت تستطيع زينب المهدى أن تطالب بسجن هؤلاء، أبداً لأن القانون فى مصر مافيهوش زينب.
زينب المهدى مثلها مثل ملايين الشباب العاطل المعطل فى هذا المجتمع، الفاقد للحلم، بعضهم يستقل مركبا فى البحر هرباً، وآخرون يهربون على كراسى المقاهى بدخان الحشيش وغيره من المخدرات، وزينب قررت أن تهرب شنقاً، والكل مشارك فيما وصلت إليه زينب وغيرها، ولكن من الذى يستطيع أن يحاكم الكل حسب درجة جريمته، لا أحد لأن القانون فى مصر مافيهوش زينب.