حدث بيننا تلاحم كامل فأصبح «شخص آخر» هو «أنا» وأصبحت «أنا» هو «شخص آخر»، وأصبحت لا أسمع صوته إلا حينما أريد أنا أن أسمع صوته وأنا الذى يتحكم فى وجوده معى وبالذات بعد ابتلاع حبوب «ميللريل» التى أعطاها لى الدكتور «عمر شاهين»، أما الفائدة القصوى فقد عادت على بالتخلص لفترات طويلة من سماعى لحديث «شخص آخر» بتناول حبوب «برولكسين»، وكذلك حبوب «ترابلافون» التى أحضرها لى الدكتور «عمر شاهين» بنفسه، والتى كانت تمنحنى فترات نوم هادئة أصحو بعدها وكأنى لم أكن أعرف «شخصا آخر»، لدرجة أنها كادت أن تنهى تماما على صوته فى أذنى، غير أنه قد حدث لى تغير كامل فى رؤيتى لما يدور حولى، وهذا ليس من قبيل التعبير المجازى أو نوع من الخيال بل أنا الآن.
وبعد عودتى من الحرب فى سنة 1967 بعشر سنوات (عندما بدأت فى كتابة هذه الاعترافات) أصبحت أرى الدنيا كلها على خشبة المسرح فيما أجلس أنا فى الصف الأول لمقاعد المتفرجين أتابع كل ما يحدث أمامى بعدم اكتراث؛ فلم يعد– الآن – ما يحدث فيها أمامى يهمنى فى شىء، ولم أعد أهتم بأى شخص كما لم يعد أحد – أى أحد – يهتم بوجودى معه؛ بل إنى اعتدت على نظرات المهانة والسخريات الخفية والمؤامرات التى تحاك ضدى (ولا بد أن أذكر هنا بأن الجميع بلا استثناء كانوا يسخرون منى من خلف ظهرى، ويتآمرون على فى كل الأوقات بلا سبب إلا محاولاتهم المستمرة إيلامى وامتهان كرامتى من الجميع)، وأصبح كل ما أفعله أنى أتابع هذه المسرحية لأنه ليس أمامى ما أفعله لتمضية الوقت ومتابعة حياتى إلا أن أتابع ما يحدث؛ فالدنيا اليوم ليست كما كانت فى بداية حدوث ما حدث، فالعالم اليوم قد اختلف عن العالم قبل عشر سنوات: فالعالم اليوم (فى سنة 1976) لم يعد هو العالم (فى سنة 1966).
العالم اليوم يجرى بسرعة باتجاه شىء لا أعرف كنهه، والدنيا تدور بداخل فراغ وأضواء، وظلال تعكس ملامح الناس على مرايا فى أركان مسرح لا حدود له، ولو أحسن الناس لأنفسهم لساروا فى بطء أقل حتى يصلوا لنقطة البداية التى ربما تكون هى نقطة النهاية، فلا شىء هو إلا نفسه وليست كل بداية إلا نهاية لشىء سبقها؛ فالجرى هو الجرى، والسير هو السير، والحياة هى الحياة، والموت هو الموت، والكل يجرى مسرعا باتجاه سحابة فوضوية لا معنى لها، فلا معنى لمحاولة اللحاق بها أو بهم؛ فالناس دائما سوف يكونون أسرع منى فى الوصول، بل وأسرع من كل القطارات التى يمكننى أن ألحق بها، وكل ما سوف أفعله أنى سوف أبتعد عنهم، لكنى سوف أحكى ما رأيته وما سوف أراه لمتعتى الشخصية التى تكلل بالانتقام منهم، وللحصول على متعة الانتقام سوف أحكى – هنا – كل ما حدث كما حدث، وكما رأيت أنا كل ما حدث، لأنه سوف يبدأ فى الحدوث منذ هذه اللحظة، فلم أكن أنا إلا واحدا من الواقفين على خشبة المسرح، لكن الجميع قد تآمروا علىّ واستبعدونى قسرا (وبمهانة وازدراء شديدين) إلى مقاعد المتفرجين وما أنا – الآن – إلا مجرد فرد بائس من المتفرجين (أو على أحسن الفروض) مجرد فرد أدرك أخيرا أن «قابيل» و«هابيل» كانا شقيقين من نطفة واحدة، وأن الخير والشر من نطفة واحدة، وكذلك العقل والجهل من نطفة واحدة، والاشتراكية والرأسمالية من نطفة واحدة، والرواية والمسرحية من نطفة واحدة، كما أن القصة القصيرة والقصيدة من نطفة واحدة، وهكذا فإن كل نطفة تحمل الضد والضد، والشبيه والشبيه، والكل يحمل نفسه ويحمل ضده، والكل من نطفة واحدة، هى «النطفة السر» التى لا يعرف أحد كنهها، وللاعترافات بقية.