انطفأت أضواء الأوبرا، وجمع الأمن رجاله، وغادر الجمهور قاعات العرض واستلم الفائزون جوائزهم، وسافر الضيوف بلادهم، ولكن ستظل أيام المهرجان عالقة فى أذهان من تابعوها، وستظل الأفلام فى عقل من شاهدوها وتلك هى أفضل نتائج هذه الدورة، التى يجب أن نتوقف أمامها ونرصدها لأن لها دلالات أكبر وأقيم كثيرًا من نجاح أو فشل حفل افتتاح أو ختام مهرجان.
عمر المهرجان 36 عامًا، وأنا بالتأكيد أكبر منه سنًا، لذا فإن الدورات التى تابعتها تكاد تقل قليلاً عن عمر المهرجان، وقد تابعته منذ أن كانت أفلامه تُعرض فى قاعات عامة فى وسط البلد، ويقف الجمهور طوابير فى محاولة للحصول على تذكرة -لأن الفيلم مناظر مش قصة- وكانت قاعات أفلام القصص عادة ما تكون خاوية من الجمهور، ففى ذلك الزمن لم يكن الجمهور قد عرف الفضائيات ولا "السلكة" ولا القنوات التركية وغيرها، ثم تابعته حين صار مهرجانًا للخاصة فقط فى أروقة الأوبرا، وكانت أغلب فعالياته لا يحضرها إلا عدد لا يتعدى أصابع اليدين، وربما كان الفيلم المصرى المشارك هو الفيلم الوحيد الذى يكثر رواده حتى إن دور العرض العامة التى كانت تعرض أفلام المهرجان فى بعض قاعاتها، تتهرب عامًا بعد عام من المشاركة فى عرض أفلام المهرجان، لأنها تخسر، فكأن الجمهور صار ولا جمهور قصة ولا جمهور مناظر، وربما كانت أكثر فعاليات المهرجان التى تلقى التكالب على حضورها هى الحفلات الاجتماعية التى يقيمها المهرجان والرعاة، وعام بعد عام صار المهرجان عجوزًا، رغم أنه لم يكن قد وصل لسن العجز، ولكن من قال إن العجز لا يصيب بعض الشباب إذا توقفت عقولهم وأحلامهم وركدت مياه الفكر لديهم، وهكذا صار مهرجان القاهرة السينمائى عجوزًا حتى لو استضاف نجمًا عالميًا "هوليودى"، أو قدم بعضًا من حفلاته عمر الشريف، فقد ظل مهرجانًا يبارك العاملون فيه لبعضهم بالنجاح الذى يسعدهم، ويهجره الجمهور المحب للسينما، فتصور الكثيرون أن العيب فى الجمهور.
ثم قررت ماريان خورى أن تقيم مهرجانًا خاصًا للسينما الأوروبية، فإذا بنا جميعًا من المهتمين بالسينما، نجد طوابير من الشباب الرواد الأهم والأكثر للسينما، تقف لشراء تذكرة تشاهد بها أفلام ليست أمريكية، ولا يبحثون فيها عن المناظر بل عن القصة والقيمة، إذًا فالجمهور المحب للسينما المختلفة لم يفسد وهو موجود بدليل بانوراما الفيلم الأوروبى.
وجاءت دورة هذا العام من المهرجان لتفاجئنا جميعًا سواء القائمين على المهرجان أو المتابعين المعتادين له مثلى، لنجد أن الجمهور الذى يشترى التذاكر يقف طوابير وتكاد القاعات أن تكون "كومبلية" بلغة أهل السينما، حتى الحفلات الصباحية التى لم يكن يرتادها إلا أقل من عدد صوابع اليد الواحدة يتكالب عليها الحضور، فما الذى حدث؟ هل يمكن أن يكون تغيير الإدارة والوجوه المعتادة دفع بعموم الجمهور لقاعات العرض؟ ولكن منذ متى يهتم الجمهور باسم القائمين على المهرجان وإدارييه؟ هل تغير الجمهور وصار فجأة مهتمًا بالسينما المختلفة؟ هل كان البرنامج يحمل أسماء من صناع السينما الذين يجذبون المحبين للفن السابع للمتابعة؟ عشرات من الأسئلة تدفعنا لأن نتوقف عند هذا الحدث الثقافى لنسأل وربما الإجابة ستمنحنا ما هو أكثر من أن نفرح ونقول مهرجان القاهرة نجح ثم ننام فى انتظار عام قادم .
الجمهور فى قاعات العرض يثبت أن مصر وبعضًا من شبابها مشتاق لأن يشاهد ويتعلم ويناقش ولكن أمنحوه الفرص، واعطوه المعطيات الصحيحة للثقافة من فن وموسيقى ورسم وجمال.
تحية لكل من عمل فى هذا المهرجان، وللفنانة إيناس عبد الدايم رئيسة الأوبرا، التى كانت تسير فى الطرقات تتابع المكان، فنعم نحن نستطيع ولكن بشروط.